بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين
ملفات الثورة المنسية / جمال سلطان
يأخذنا الجدل السياسي أحيانا بعيدا عن مفاصل خطيرة في بنيان الدولة ، تحتاج منا جهدا أكبر ، وقدرة على التركيز أكبر ، ومساحة وقت للحوار والتأصيل وطرح الأفكار والتصورات بصورة أكثر جدية ، صحيح أن الجدل حول الانتخابات البرلمانية والرئاسية مهم وحيوي لاستقرار الدولة وتجاوزها لفترة القلق والتردد التي يسببها قصر عمر الحكومة وغياب اليقين لدى كل مسؤول صغر أو كبر بصورة المستقبل ، ولكن مصر التي حلمنا بها ، تحتاج إلى أن ننشغل بقضايا أخرى لا تقل خطورة عن البرلمان والرئاسة .
تأتي مسألة استقلالية مؤسسة العدالة في مقدمة تلك المفاصل الخطيرة ، بل الأكثر خطورة في مستقبل مصر ونقلها من مصاف العالم الثاني أو الثالث إلى العالم الأول ، فإذا كنا نقول بأن السلطات التي تقوم عليها الدولة ثلاث : التنفيذية والتشريعية والقضائية ، فإن هذه الأخيرة هي السلطة الأكثر رسوخا وثباتا في المجتمع ، وبالتالي هي السلطة الحقيقية التي تعطي ثبات المجتمع وديمومته وإنسانيته وتحضره حتى لو اهتزت السلطات الأخرى ، وكلما كان القضاء مستقلا ومحصنا في دولة كلما كانت أقرب إلى التحضر وأقرب إلى النجاح في تطوير قدرات المجتمع التنموية أيضا ، لأن استقرار العدالة ونزاهتها وشفافيتها يجعل الجميع يعمل وهو آمن على أن حقه محفوظ بقوة القانون وحماية القضاء ، ولا يجرؤ أي شخص أو سلطة أن يتعدى عليه أو يتلاعب به ، ولطالما ناضل الشرفاء في مؤسسة القضاء وفي القوى الوطنية من أجل العمل على استقلال القضاء المصري ، وغل يد السلطة التنفيذية عن التدخل في أعماله وتوجيه الأحكام ، عبر حيل كثيرة واختراقات إدارية ومالية عديدة ، نبه إليها شيوخ القضاة في محاضرات لهم وكتب شهيرة ، استقلال القضاء هو الرادع لتغول السلطة التنفيذية ، وهو المظلة التي تحمي المواطن من انفلات المؤسسة الأمنية واستباحتها له ، وهو الضمانة أيضا لسلامة عملية إخراج المؤسسة التشريعية "البرلمان" وهو الملاذ لكل مظلوم إذا ضاع حقه في الانتخابات أو أي نشاط آخر ، وأتصور أن استقلال القضاء ، هو شرط أساس لتحققنا من نجاح الثورة ، ونحن الآن في لحظة تاريخية رائعة ومناسبة ، تتأسس فيها كل القواعد التي يحتاجها الوطن لبناء دولة حديثة وديمقراطية وعادلة ، فلا ينبغي أن تجرفنا الأحداث والجدل عن الانتباه عن هذه "الضرورة الوطنية" ، ولو لم نخرج من الثورة كلها بمكسب إلا هذا الأمر لكان نصرا .
تأتي المؤسسة الدينية ، أو "العلمائية" في المقام التالي والخطير الذي يحتاج منا إلى جهد يليق بخطورتها وعمق نفوذها في جذر المجتمع ، لا يوجد طاغية لم يحاول بسط سيطرته الكاملة على تلك المؤسسة واحتوائها ، من أجل أن تتحول إلى أحد أذرع "القمع" التي يستخدمها ، كما يستخدم القمع الأمني والقمع الثقافي والقمع الإعلامي ، يستخدم أيضا "القمع الديني" ، بالنظر إلى عمق تجذر الدين في مجتمعاتنا وتأثيره على قطاعات واسعة من الشعب ، فأن ننجح في ترسيخ استقلال هذه المؤسسة الحساسة ، نكون قد حولناها إلى قوة دفع للمجتمع المدني ، وقوة توازن تحمي المجتمع من تغول السلطة أي سلطة ، حتى لو كانت حكومة لحزب إسلامي التوجه ، وتكون أكثر قدرة وحيوية في التواصل مع جميع خلايا المجتمع وإدارة حوارها مع قواه الوطنية السياسية والمدنية بكل حرية وانفتاح ، وتعيد البهاء والهيبة للفتوى الدينية وخاصة من المؤسسة الرسمية ، وتمثل الضمانة الأكيدة والفعالة لتهميش أي نزعات للتطرف أو التشدد الديني بما تملكه من مصداقية .
الجانب الثالث المهم للغاية ، هو المجتمع المدني ومؤسساته ، وهو مجتمع ما زال هشا من الناحية القانونية ، يمكن للجهة الإدارية التلاعب به بسهولة ، وكانت المؤسسة الأمنية توجهه كيفما شاءت في حقبة مبارك ، والمجتمع المدني ، بمؤسساته الخيرية والثقافية والدينية والتعليمية والتنموية والحقوقية وغيرها ، هو ماء الحياة الحقيقي للمجتمع الحديث ، وهو القطاع الذي يحفظ استمرارية الفعل الحضاري والتنموي في المجتمع بغض النظر عن تقلبات السياسة وصراعاتها ، ولا يمكن أن ينجح هذا القطاع إلا إذا أعيد الاعتبار والقدسية للأوقاف ، وأن تكون محصنة من "وضع اليد" عليها من قبل أي سلطة أخرى ، غير الواقف ، فهذا هو المدخل الذي يجعل مؤسسات المجتمع المدني في بلادنا تمول ذاتيا ، ولا تحتاج إلى دولار واحد من خارج البلاد ، ومصر غير الرسمية سخية للغاية في هذا الجانب ، ولو تم تقنينه بشكل جاد وتحصينه لفاض بالبركة والخير على مصر ونهض بها نهضة عظيمة .
أتمنى أن تأخذ هذه الجوانب الثلاثة حظها من الحوار الوطني ، الحقيقي وليس هذا المصطنع والمرتب لأغراض في نفس زيد أو عبيد ، هذه فرصتنا التاريخية لنؤسس وطنا نفخر به ونطمئن على مستقبل أجيالنا الجديدة فيه ، ونشعر فيه بأمن وأمان وعدل وكرامة حقيقية .
المصدر: المصريون