بسم الله الرحمن الرحيم
أذكر الله
إن أكبر ما يدحض فرية أن الصدفة هي المسؤولة عن عملية خلق الكائنات الحية من التراب هو وجود كائنات حية تسمع وتبصر وتعقل. إن الذي يخلق كائنات يمكنها أن تسمع لا بد وأن يكون سميعا وكائنات يمكنها أن تبصر لا بد أن يكون بصيرا وكائنات يمكنها أن تعقل لا بد أن يكون عاقلا. فكيف يمكن للصدفة التي لا تبصر ولا تسمع ولا تعقل أن يخطر في بالها، إن كان لها بال، أن تصنع كائنات من التراب يمكنها أن تسمع وترى التراب الذي صنعت منه ويفكر بعضها ليس في التراب فحسب بل بما وراء التراب؟! إن في تركيب نظامي السمع والبصر من التعقيد بحيث لا يمكن لهما أن يعملا إلا بتوفر جميع مكوناتها مما يعني أن الصدفة لا يمكن لها أن تصنع أحد أجزاء نظام البصر ثم تبقيه من خلال تخزين طريقة تصنيعه على الشريط الوراثي ومن ثم تنتظر الصدف لتصنع جزءاً آخر وهكذا إلى أن يكتمل تصنيع جميع أجزاء نظام البصر.
إن البشر الذين هم أعقل من على الأرض لا يعرف أكثرهم مما يتكون نظامي السمع والبصر ولا يعرفون القوانين الفيزيائية التي بنيت على أساسها هذه الأنظمة. ولولا أن البشر قد ولدوا وهم يسمعون ويبصرون ويعقلون لما خطر على بالهم أن هنالك كائنات يمكنها أن تسمع وتبصر وتعقل.
وإذا كان البشر على ما في رؤوسهم من عقول كانوا يجهلون متطلبات بناء هذه الأنظمة وهي موجودة في أجسامهم وأجسام كثير من الحيوانات حولهم فكيف يمكن للصدفة أن تهتدي إلى معرفة مكونات هذا النظام ثم تقوم ببنائه على أكمل وجه لملايين الأنواع من الكائنات الحية؟! وسنشرح في هذه المقالة مكونات نظام الإبصار عند الإنسان ونؤجل شرح نظام السمع وتركيب الدماغ إلى مقالات لاحقة.
مم تتركب العين؟
تتكون العين البشرية من كرة لحمية مملؤة بسائل هلامي شفاف ويبلغ متوسط قطرها سنتيمترين وخمس السنتيمتر ووزنها ثمانية غرامات فقط.
يتكون جدار كرة العين الذي لا يتجاوز سمكه المليمترين من ثلاث طبقات وهي الصلبة والتي تعطي العين لونها الأبيض والمشيمية وهي شبكة العروق التي تمد العين بالدم اللازم لتغذيتها والشبكية وهي الغلاف الداخلي الحساس للضوء والذي ترتسم عليه صورة الأجسام.
أما الملتحمة فهي الغشاء الخفيف الذى يغطى الصُلبة (الجزء الأبيض فى العين) ويبطن الجفون من الداخل ووظيفتها ترطيب العين من الداخل بإفراز مواد مخاطية يتم مزجها مع الدموع. ولكي يتم إدخال الضوء إلى غرفة العين ورسم صور الأشياء على الشبكية فقد تم استبدال طبقات جدار العين الثلاث عند مقدمتها بثلاثة مكونات وهي القرنية التي هي امتداد للصلبة ولكنها شفافة للضوء ولها قطر تحدب أصغر من ذلك الذي للصلبة والقزحية والتي هي امتداد للمشيمة وهي التي تعطي العين ألوانها المختلفة كالبني والأزرق والأخضر ويوجد في مركزها فتحة دائرية تسمى الحدقة أو البؤبؤ تسمح للضوء المنكسر من القرنية بالدخول إلى العين. ويتم التحكم بمقدار فتحة البؤبؤ بعضلات موجود في القزحية بعضها دائري وبعضها شعاعي وذلك للحد من شدة الضوء الداخل إلى العين لكي لا يدمر الشبكية ويتراوح قطر الحدقة بين ملليمترين عند الضوء الشديد وثمانية مليمترات عند الضوء الخافت. إن عملية التحكم بفتحة الحدقة تتم بطريقة آلية (أوتوماتيكية) فبمجرد أن تتغير شدة الضوء الساقط على الشبكية يقوم مركز الإبصار في الدماغ بقياس شدته وإرسال إشارات تحكم إلى عضلات القزحية لتحدد مقادر فتحة الحدقة بما يتناسب مع شدة الضوء وتتم هذه العملية بسرعة بالغة حتى لا يتم تدمير الشبكية من الضوء الشديد. أما العدسة فهي امتداد للشبكية وهي محاطة بسبع عضلات تسمى الجسم الهدبي وهو يتحكم في مقدار تحدب العدسة وذلك لكي تقع الصورة المكونة على الشبكية تماما حيث تكون صورة الأجسام المرئية أوضح ما يكون فهي ترتخي عند رؤية الأجسام البعيدة وتتقلص عند رؤية الأجسام القريبة. ويقوم مركز الإبصار أيضا بالتحكم بطريقة آلية بدرجة تحدب العدسة فبمجرد أن ينظر الشخص إلى مشهد ما فإن الدماغ يقوم على الفور بتحديد درجة التحدب المطلوبة لتظهر صورة المشهد في أوضح أشكالها.
ولكي تحافظ العين على شكلها الكروي وبالأبعاد المطلوبة تم ملئ الفراغ الداخلي الذي يقع خلف العدسة بمادة هلامية شفافة تشبه زلال البيضة يسمى الجسم الهلامي. أما الفراغ الذي يقع أمام العدسة فقد تم ملؤه بمحلول مائي يسمى الخلط المائي وهذا الفراغ مكون من غرفتين الغرفة الأمامية وتقع ما بين القرنية والقزحية والغرفة الخلفية وتقع ما بين عدسة العين والقزحية. وفى الزاوية بين القرنية والقزحية فى الغرفة الأمامية توجد قناة شليم ووظيفتها تصريف محلول الخلط المائى من الغرفتين وإرساله إلى الجسم إذا ما زاد ضغطه عن حد معين حيث أن ارتفاع ضغط العين عن هذا الحد يؤثر على عمل العين ويسبب ما يسمى بالماء الأزرق أو الجلوكوما. ولكي تعمل العين بالشكل المطلوب لا بد من ضمان شفافية المكونات التي يمر من خلالها الضوء إلى داخل العين وهي القرنية والعدسة والسائل الهلامي الذي يملأ حجرة العين. إن المواد الشفافة للضوء الموجودة في الطبيعة قليلة جدا وهي الزجاج والكوارتز والماس والماء ولكن بما أن جميع أجسام الكائنات الحية تبني من مواد عضوية كان لزاما أن يتم تصنيع مكونات العين الشفافة من مواد عضوية بحيث يتكون معظم سيتوبلازم خلاياها من بروتينات شفافة للضوء. ويلزم لضمان شفافية القرنية والعدسة أن تكون خالية من الأوعية الدموية التي تمد خلاياها بالغذاء والأكسجين ولذلك فقد تم تصميم جدرانها بحيث تحصل على احتياجاتها من الغذاء والأكسجين بشكل مباشر عن طريق الترشيح من الخلط المائى الذى يملأ الغرفة الأمامية والغرفة الخلفية.
وتستقر العين داخل جزء من تجويف الجمجمة يسمى المحجر وهذا المكان يؤمن الحماية للعين من جميع الجهات عدا الجهة الأمامية حيث تقوم الجفون بحماية العين أثناء النوم من خلال إغلاقها وكذلك منع وصول الضوء إلى الشبكية لكي تريحها بعد يوم طويل من العمل المتواصل. كذلك تقوم الجفون بترطيب وتنظيف العين وخاصة القرنية من الغبار الذي يقع عليها وذلك من خلال نشر الدموع فى العين والتى تحتوى على مواد تقتل البكتيريا والفيروسات. وتستجيب الجفون بشكل تلقائي لأى جسم قد يهدد العين مثل تحرك الأشياء بسرعة كبيرة في اتجاهها أو مفاجئتها بضوء ساطع وتكون هذه الاستجابة من خلال إغلاق العين كليا أو جزئيا بالجفن.
أما الرموش فإنها إلى جانب الناحية الجمالية فإنها تقوم بحماية العين من دخول الجسيمات الدقيقة وأما الحاجب وهو الشعر الذى يوجد فوق جفن العين على حافة المحجر العليا فوظيفته تحويل اتجاه المواد السائلة من العرق أو الماء بعيداً عن العين. وتقوم الغدد الدمعية التي تقع فى الجزء العلوى الأمامى لمحجر العين بصب الدموع عبر قنوات دمعية على ملتحمة العين ثم تنتقل الدموع إلى زاوية العين الداخلية لتصل إلى القُنيات الدمعية ثم إلى الكيس الدمعى المسئول عن عدم نزول الدموع دفعة واحدة لتجويف الأنف ثم تنتقل إلى القناة الدمعية الأنفية لتصب الدموع فى تجويف الأنف. ويتم التحكم بحركة كرة العين داخل المحجر باستخدام ستة عضلات قادرة على تحريك العين في المستوى الأفقي إلى اليمين والشمال وفي المستوى الرأسي إلى الأعلى والأسفل ويتم تحريك عضلات كل من العينين بشكل متزامن بحيث تتحرك إحدى العينين بنفس الاتجاه التي تتحرك به العين الأخرى.
إن من عنده أدنى معرفة في علم البصريات يعلم أنه لكي تقوم العين بوظيفتها على الوجه الأكمل يجب أن يتم تحديد أبعاد ومواصفات مكوناتها بشكل بالغ الدقة وإن خلللا بسيطا في مواصفات أو أبعاد أحد هذه المكونات قد يؤدي إلى فشل عملية الرؤيا. إن المبدأ الأساسي الذي تقوم عليه عملية رؤية الأشياء يكمن في قدرة العدسة على رسم صورة للأشياء التي يسقط الضوء المنعكس عنها عند بؤرتها. ويوجد في العين البشرية عدستان تعملان على ضمان وقوع الصورة على شبكية العين أولهما القرنية وهي عدسة محدبة_ مقعرة لها أبعاد ثابتة كما هو مبين في الصورة المبينة أعلاه وهي مسؤولة تقريبا عن ثمانين بالمائة من عملية رسم الصورة على الشبكية. أما العدسة الثانية والتي يطلق عليها اسم العدسة البلورية فهي عدسة محدبة الوجهين ولكن درجة تحدبهما غير ثابتة بل يمكن التحكم بهما من خلال العضلات المحيطة بالعدسة وذلك لكي يتم ضمان وقوع صور الأشياء القريبة والبعيدة بشكل واضح على الشبكية. ويبلغ قطر العدسة تسعة ملليمترات وسمكها عند منتصفها خمسة مليمترات في حالة الإرتخاء. إن وجود عدسة ثابتة التحدب كالقرنية أمام العدسة الداخلية متغيرة التحدب كان ضروريا لتحقيق هدفين أولهما تصغير حجم العدسة الداخلية وذلك لكي يتم التحكم بدرجة تحدبها بعضلات صغيرة وبالتالي تصغير حجم العين وثانيهما لتركيز الضوء الداخل إلى العين من خلال القرنية لكي يمر من خلال حدقة العين الضيقة الواقعة أمام العدسة الداخلية والتي يمكنها التحكم بكمية الضوء الداخل إلى شبكية العين. وكما هو معروف من معادلات العدسات فإن العدسة لن تقوم بعملها إذا كان معامل إنكسار المادة المحيطة بها يساوي معامل إنكسارها فعدسة القرنية التي يبلغ معامل إنكسارها 1.376 محاطة من الخارج بالهواء بمعامل إنكسار يساوي واحد ومحاطة من الداخل بماء العين بمعامل إنكسار يبلغ 1.336 مما يعني أن الوجه المحدب الخارجي للقرنية يلعب الدور الأكبر في عملية إنكسار الضوء وذلك للفارق الكبير بين معاملي الإنكسار. ويتجلى مدى علم مصمم هذه العين القائل عن نفسه سبحانه وتعالى "وخلق كل شئ فقدره تقديرا" في طريقة تصميم العدسة الداخلية حيث أنها موجودة في وسط مادة هلامية شفافة ذات معامل إنكسار قيمته 1.336 وهو يزيد قليلا عن معامل إنكسار الماء البالغ 1.333 فكان لابد لكي تعمل العدسة أن يتم رفع معامل إنكسارها إلى 1.406 عند مركزها. وبما أن هذا الفارق بين معاملي الإنكسار لا زال قليلا فقد استخدم سبحانه وتعالى تقنية بديعة لزيادة قوة تكبير العدسة وهي ما يسمى بالعدسة ذات معامل الإنكسار المتدرج Graded Index lens (GRIN)) فكما هو واضح من الصورة فإن معامل إنكسار العدسة عند وسطها يبلغ 1.406 وعند أطرافها 1.386. ويستخدم البشر اليوم مثل هذه العدسات المتدرجة في كثير من التطبيقات الحديثة مع العلم أن تصنيع مثل هذه العدسات يحتاج إلى معدات بالغة التعقيد. ونشاهد في الصورة كذلك أن نصفي قطر وجهي العدسة البلورية مختلفان في القيمة مما يعطي درجة إضافية من الحرية لضبط مقدار البعد البؤري لها على الرغم من أن تصنيع مثل هذه العدسة غير المتماثلة أصعب بكثير من العدسة المتماثلة. إن من عنده معرفة بأنظمة التصوير يعلم أن تحديد مكان تكون الصورة في نظام تصوير بعدسة واحدة فقط محاطة بالهواء من جانبيها عملية ليست بالسهلة ويزداد الأمر تعقيدا في حالة نظام تصوير بعدستين أو أكثر. أما نظام التصوير في العين فإن فيه من التعقيد ما يصعب حتى على أذكى المختصين من تحديد مكان الصورة الأمثل فهذا النظام كما شرحنا سابقا مكون من عدستين أحدهما ثابتة بمعامل إنكسار 1.376 وبوجهين الخارجي منها محدب بنصف قطر يبلغ 7.259 ملم ومحاط بالهواء والداخلي مقعر بنصف قطر 5.585 ملم ومحاطة بماء العين بمعامل إنكسار 1.336 . أما العدسة الثانية فتقع على بعد 2.794 ملم من العدسة الأولى وهي عدسة محدبة الوجهين بدرجة تحدب متغيرة حيث يبلغ نصف قطر الوجه الأمامي عند الإرتخاء 8.672 ملم والخلفي 6.328 ملم وهما محاطين بماء العين والجسم الهلامي بمعامل إنكسار 1.336 إضافة إلى ذلك فإن معامل إنكسار هذه العدسة متدرج يبلغ عند منتصفها 1.406 وعند أطرافها 1.386.
لقد حدد الله سبحانه وتعالى موقع الشبكية الأمثل على بعد أربعة وعشرين ملليمتر من القرنية وهنا أناشد المختصين في علم العدسات أن يقوموا بحساب هذا البعد ونشر نتائج حساباتهم إن أمكن. والأعجب من كل هذا أن أبعاد مكونات هذه العين رغم أنها مصنوعة من الماء وقليل من المواد العضوية تبقى ثابتة لا تتغير عند كثير من الناس إلى ما يقرب من قرن من الزمن والعين هي العضو الوحيد من بين أعضاء جسم الإنسان التي لا يختلف حجمها من إنسان إلى إنسان إلا بقدر بالغ الضآلة ولا يزيد حجمها مع زيادة حجم الجسم.
إن قيام عدسات العين برسم صورة لما حولها من أجسام على جدار العين الداخلي لا يعني شيئا للكائن الحي إذا لم يتم إرسال هذه الصور إلى الدماغ لكي يدركها. إن أول خطوة من خطوات الإدراك هو تحويل شدة الضوء وكذلك لونه لكل نقطة من نقاط الصورة المكونة إلى إشارات كهربائية يتم نقلها بطريقة ما إلى الدماغ. إن الجهاز الذي يقوم بعملية التحويل هذه هي شبكية العين التي تغطي ما مساحته أحد عشر سنتيمتر مربع أو ألف ومائة مليمتر مربع من الجدار الداخلي للعين في الجزء الخلفي منها والمقابل للعدسة أي ما يعادل 72 % من مساحة جدار العين الداخلي. وتتكون الشبكية من نوعين من الخلايا الحساسة للضوء وهي العصيات التي تستجيب لشدة الضوء فقط بغض النظر عن لونه وهي شديدة الحساسية للضوء الخافت وكذلك لحركة الأجسام ويبلغ عددها مائة وثلاثون مليون خلية تقريبا. أما النوع الثاني فهي المخاريط والتي تستجيب للضوء الشديد أي أنها منخفضة الحساسية ولكنها في المقابل قادرة على تمييز الألوان حيث يوجد منها ثلاثة أنواع تستجيب للألوان الرئيسية الثلاث وهي الأحمر والأخضر والأزرق ويبلغ عددها سبعة ملايين خلية تقريبا موزعة بنسبة 64 % للحمراء و 32% للخضراء و 4% للزرقاء. وتتوزع الخلايا الضوئية بكثافة غير منتظمة على سطح الشبكية حيث تصل كثافتها إلى ما يقرب من مائة وستون ألف في المليمتر المربع الواحد عند مركزها ثم تقل تدريجيا عند الأطراف. وعلى الرغم من أن عدد المخاريط أقل بكثير من العصي إلا أن معظمها موجود في المقلة التي لا يتجاوز قطرها ثلاثة مليمترات وفي مركز المقلة توجد منطقة لا يتجاوز قطرها ملليمتر ونصف تسمى النقرة فيها أكبر كثافة للمخاريط والتي تم تصغير قطرها بالنسبة للمخاريط الأخرى وذلك للحصول على أكبر كثافة ممكنة وفي مركز النقرة توجد منطقة تخلو تماما من العصي. إن منطقة المقلة تقع تماما أمام العدسة البلورية وهي المسؤولة عن الرؤية المركزية فجميع الأجسام التي تقع ضمن زاوية رؤيا تبلغ سبعة عشر درجة ترتسم صورها على هذه المنطقة التي لا يتجاوز قطرها الثلاث مليمترات. فعلى سبيل المثال فإن صورة الشمس أو القمر ليلة البدر تحتل مساحة على النقرة لا يتجاوز قطرها السدس ملليمتر ولهذا السبب فإنه يلزم تحريك العين بإتجاه الشئ المراد رؤيته للحصول على صورة بأكبر قدر ممن من الوضوح. إن المسافة الفاصلة بين مخروطين متجاورين في النقرة لا يتجاوز ميكرومتر ونصف وهذا الرقم لا يزيد كثيرا عن طول موجة الضوء الأحمر البالغ سبعة أعشار الميكرومتر علما بأنه لايمكن بأي حال من الأحوال تمييز الأبعاد التي يقل طولها عن طول الموجة المستخدمة لرؤيتها. ولتوضيح ضخامة هذا العدد من الخلايا الحساسة للضوء نذكر أن عدد الحبيبات الفوسفورية بألوانها الثلاث الموجودة على شاشات التلفزيونات الملونة لا يتجاوز المليون حبيبة وموزعة على مساحة قد تصل لنصف متر مربع. ولا زال المهندسون يعملون جاهدين على تصنيع تلفزيونات بقدرة تمييز تضاهي قدرة تمييز العين البشرية بما يسمى التلفزيونات عالية الوضوح. أما المناظر التي تقع خارج نطاق الرؤيا المركزية والتي قد تصل زاوية الرؤيا فيها إلى ما يقرب من مائتي درجة فإنها ترتسم على بقية الشبكة ولكن بقدرة تمييز أقل بكثير من تلك التي في المقلة.
إن مهمة العصي والمخاريط كخلايا حساسة للضوء كما ذكرنا سابقا هو تحويل شدة الضوء وكذلك لونه إلى إشارات كهربائية يتم إرسالها من خلال العصب البصري إلى الدماغ ليقوم برسم صورة الشيء المرئي في خلاياه العصبية. إن عملية التحويل هذه عملية بالغة التعقيد تمكن العلماء من كشف بعض أسرارها ولا زالوا يجهلون كثيرا من آليات عملها ومما كشفه العلماء هو أنه يوجد في هذه الخلايا نوع من البروتينات يسمى الرودبسن له أربعة أشكال فالشكل الأول موجود في العصي ويستجيب لجميع ترددات الطيف المرئي والذي يمتد من 400 نانومتر إلى 700 نانومتر. أما الأشكال الثلاثة الباقية فهي موجودة في أنواع المخاريط الثلاثة بحيث يوجد شكل واحد فقط لكل نوع من هذه الأنواع فالبروتين الموجود في المخاريط الحمراء يستجيب لترددات المنطقة الحمراء من الطيف المرئي وكذلك هو الحال للبروتينات الموجودة في المخاريط الخضراء والزرقاء. وعندما يسقط فوتون من الضوء على أحد العصي أو المخاريط وله تردد يقع ضمن نطاق استجابته فإنه يقوم بتفكيك أحد روابط البروتين الحساس للضوء مما يجبره على تغيير شكله ثم يقوم هذا البروتين المعدل بقدح سلسلة طويلة ومعقدة من التفاعلات الكيميائية تنتهي بإنتاج نبضة كهربائية تذهب باتجاه العصبونات المرتبطة بهذه الخلية الحساسة للضوء كما هو مبين في الشكل أعلاه. وتتكون خلايا العصي والمخاريط من جزء أمامي يحتوي على رزمة كبيرة من الأقراص التي تحتوي على البروتين الحساس للضوء وجزء خلفي يحتوي على النواة وعلى المكونات التي تنتج النبضات الكهربائة وعلى أطراف عصبية ترتبط بالخلايا العصبية المتصلة بها.
أما المرحلة التالية من عملية الإبصار فهي إرسال النبضات الكهربائية التي تنتجها الخلايا الحساسة الضوء إلى مركز الإبصار في الدماغ. وبما أن عدد خلايا العصي والمخاريط في الشبكية يصل إلى ما يقرب من مائة وسبعة وثلاثين مليون فإن ربط هذا العدد الهائل من الخلايا بمركز الإبصار باستخدام ليف بصري واحد لكل خلية يتطلب أن يكون قطر العصب البصري خمسة أضعاف مما هو عليه آلان وهذا سيحتل حيزا كبيرا من حجم الدماغ وكذلك من مساحة الشبكية. ولذلك فقد تم تقليص عدد ألياف العصب البصري إلى ما يزيد قليلا عن مليون ليف مما تطلب إنشاء شبكة معقدة وذكية من الخلايا العصبية داخل الشبكية تقوم بربط مخارج مائة وثلاثون مليون من العصي وسبعة ملايين من المخاريط بمداخل مليون ليف عصبي. ويوجد في شبكة التحويل هذه أربعة أنواع من الخلايا العصبية تقوم بوظائف متعددة ومحددة ومعقدة لازال العلماء يعملون جاهدين لكشف تركيبها وفهم وظائفها وآليات عملها. إن أول طبقة من الخلايا العصبية التي تلي الخلايا الحساسة للضوء تحتوي على نوعين من الخلايا النوع الأول هو الخلايا ثنائية القطبية وهي تقوم بعدة وظائف أهمها تجميع مخارج عدة خلايا ضوئية لتنتج مخرجا واحدا فقط وذلك لتقليص عدد الألياف الذاهبة للدماغ وكذلك التحكم بعدد النبضات التي تمرر من خلالها بإتجاه الدماغ. ويوجد أحد عشر نوعا من الخلايا ثنائية القطبية منها نوع واحد يرتبط بالعصي أما العشرة الباقية فترتبط بالمخاريط وقد يصل عدد العصي المرتبطة بخلية عصبية ثنائية القطبية إلى ما يزيد عن مائة عند أطراف الشبكية وينزل إلى عدة عصي عند مركزها. وبما أن المخاريط الموجودة في مركز الشبكية هي المسؤولة عن الرؤية المركزية وكذلك عن تحديد اللون فإنه يتم في الغالب ربط مخروط واحد فقط بخلية عصبية واحدة وقد يزيد إلى عدة مخاريط عند الأطراف. وربما يسأل سائل عن الفائدة من وجود هذا العدد الكبير من العصي وينتهي الأمر بربط مائة منها بخلية عصبية واحدة والجواب على هذا هو لزيادة مدي رؤية العين من خلال زيادة مساحة الشبكية وكذلك زيادة حساسيتها للضوء الخافت جدا حيث أن احتمالية إلتقاط عدد قليل من الفوتونات الضوئية يزداد مع زيادة عدد العصي وغالبا ما يتم هذا خارج منطقة الرؤيا المركزية حيث لا يلزم درجة تمييز عالية. أما النوع الثاني من الخلايا العصبية فهي ما يسمى بالخلايا الأفقية وهي ترتبط من خلال أطرافها بالوصلات التي تربط العصي والمخاريط بالخلايا ثنائية القطبية وهي تعمل على تنسيق وتنظيم معدلات مرور النبضات الكهربائية الخارجة من الخلايا ثنائية القطبية فقد يوقف بعضها تماما أو يقلل معدلات بعضها ولا زال العلماء يجهلون كثيرا من وظائفها وآليات عملها. أما النوع الثالث فهي ما يسمى بخلايا الجينجليون وهي ترتبط من طرف بالخلايا ثنائية القطبية حيث تستقبل منها النبضات الكهربائية وبالألياف العصبية من الطرف الآخر حيث تمرر النبضات الكهربائية من خلاله إلى خلايا الدماغ في مركز الإبصار. وقد ترتبط كل خلية من هذه الخلايا بعدد من الخلايا ثنائية القطبية وذلك للحصول على مزيد من التقليص في عدد الألياف اللازمة لنقل الصور إلى الدماغ والقيام بالمعالجة التي تتعلق بألوان الصور. أما النوع الرابع من الخلايا العصبية فهي خلايا أمسراين وهي كالخلايا الأفقية تعمل على تنسيق عمل خلايا الجينجليون المتجاورة من خلال تنظيم معدلات مرور النبضات الكهربائية.
تتوزع هذه الخلايا العصبية على جميع سطح الشبكية ولذلك فإن جميع الألياف العصبية الخارجة منها تسيير بشكل شعاعي باتجاه مركز الشبكية وتتجمع في منطقة صغيرة تسمى القرص البصري تقع على بعد خمسة ملليمترات من مركز الشبكية لتخرج هذه الألياف من جدار العين على شكل كيبل يسمى العصب البصري الذي يبلغ قطره عند الشبكية مليمتر ونصف. وتخلو منطقة العصب البصري عند الشبكية تماما من الخلايا الحساسة للضوء ولذلك فإن أي صورة ترتسم عليها لا يمكن رؤيتها أبدا ولذلك سميت هذه المنطقة بالبقعة العمياء. ولكن وبسبب أن مركز الإبصار يبني الصورة النهائية من صورتين مأخوذتين من عينين فإنه من النادر أن تظهر البقعة العمياء في المشاهد التي نراها. وقد يتساءل بعض القراء عن سبب خلو القرص البصري من العصي والمخاريط وقد يكون الجواب مفاجئ لبعضهم إذا ما علموا أن الخلايا الحساسة للضوء لا تقع على سطح الشبكية المواجه للضوء القادم من العدسة بل تقع خلف شبكة معقدة جدا من الخلايا العصبية والألياف العصبية والأوردة والشرايين وعلى الضوء أن يخترق عدة طبقات من الشبكية حتى يصل للخلايا الحساسة للضوء.
ومما يبعث على السخرية أن يقول أحد العلماء الملحدين أن وضع الشبكية بهذا الشكل المقلوب دليل على أن الصدفة هي التي صممت وصنعت هذه العين فمثل هذا الخطأ في التصميم لا يمكن أن يقع فيه عاقل وهذا يعني على حسب استنتاجه أنه لا وجود للإله الذي يؤمن به بعض البشر والذي يقولون عنه أنه لا حدود لعلمه وقدرته. ونقول لهذا المعتوه هل يمكن لمن قام بتصميم جميع أجزاء العين البالغة التعقيد على أكمل وجه كما شرحنا سابقا يعجز عن إدراك حقيقة أن الخلايا الحساسة للضوء يجب أن توجه باتجاه مصدر الضوء. ولو أن الصدفة هي التي صممت العين كما يدعي لكان لزاما أن تكون هذه الخلايا موجه باتجاه الضوء فالصدفة لا تفكر ولا تصمم بل تترك الأشياء تتصرف وفق قوانين الطبيعة. بل إن هذه الشبكية المقلوبة لهي أكبر دليل على أن الذي قام بتصميمها إله لا حدود لعلمه وقدرته فلو أننا طلبنا من جميع مهندسي العالم تصميم كميرة تلفزيونية يقع فلمها الحساس للضوء خلف شبكة معقدة من الأسلاك ومن ثم تقوم بوظيفتها على أكمل وجه لفشلوا فشلا ذريعا في عمل ذلك. وفي المقابل نجد أنه على الرغم من وجود الخلايا الحساسة للضوء في العين خلف هذه الشبكة المعقدة من الخلايا والألياف العصبية والأوردة والشرايين إلا أنها تقوم بوظيفتها على أكمل وجه بحيث يستطيع الإنسان قراءة الأحرف الكتابية الصغيرة على ضوء شمعة أو حتى على ضوء القمر. وفي هذه الشبكية المقلوبة يتحدى الله البشر لا ليصنعوا أجهزة بصرية مثلها بل فقط ليقوموا بحل لغز قدرة الخلايا الحساسة للضوء على إلتقاط الضوء رغم وجود عدة طبقات من الخلايا العصبية والشرايين أمامها. ونقول لهذا المدعي العلم إن العلماء قد تمكنوا أخيرا من كشف سر وجود الخلايا الضوئية بهذا الشكل المعكوس فقد وجدوا أن هذه الخلايا تستهلك كميات كبيرة من البروتينات والأنزيمات لإتمام عملية تحويل الضوء إلى نبضات كهربائية وتتخلص كذلك من كميات كبيرة من نواتج التفاعلات الكيميائية فكان الحل في وضعها ملاصقة لجدار المشيمة لإمدادها بما يلزمها من مواد بشكل متواصل. وكذلك فإن عدم سقوط الضوء بشكل مباشر على الخلايا قد يحميها من التلف فكلنا يعلم أن النظر إلى الشمس وهي مكسوفة يسبب العمى وذلك لتعرضها للضوء فوق البنفسجي الذي يسبب التلف لمعظم خلايا الكائنات الحية. ولهذه الأسباب تطلب الأمر وضع الخلايا والألياف العصبية أمامها ولكن بتوزيع بالغ الإتقان بحيث يمكن للضوء المرئي أن ينفذ من خلال هذه الشبكة المعقدة بكل سهولة ويسر بينما يتم امتصاص الضوء فوق البنفسجي الضار وأكبر دليل على نجاح هذا التصميم البارع أن العين تعمل على أكمل وجه ونرى الصور بمنتهى الوضوح حتى في أخفت الأضواء. ونقول أخيرا لهذا الجاهل ولأمثاله من الملحدين هل ترى من عيب في عمل العين رغم هذا الذي تقول أنه خطأ في تصميم الشبكية وصدق الله العظيم القائل في محكم تنزيله "الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ" تبارك 3-4.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة] |
شكل يوضح مقطع لشبكية العين حيث يظهر فيه الخلايا العصبية التي تنقل السيالة الكهربائية إلى مركز الرؤية في المخ |
يتكون العصب البصري من مليون ومائتي ألف ليف بصري بقطر لا يتجاوز الميكرومترين لكل منها وقد تم لفها بإحكام داخل كيبل لا يتجاوز قطره المليمتر والنصف عند خروجه من الشبكية ولكنه يزداد ليصل إلى عدة مليمترات بعد خروجه من محجر العين. ويسير العصب البصري لكل عين باتجاه قاعدة المخ ليتلقيا في مكان محدد وعنده يتم تقسيم الألياف البصرية في كل عصب إلى نصفين نصف يذهب إلى مركز الإبصار المخصص لتلك العين أما النصف الثاني فيذهب إلى مركز الإبصار المخصص للعين الأخرى. وهذا يعني أن نصف الصورة المرسومة على الشبكية لكل عين يتم إظهاره في مركز إبصار العين الأخرى والنصفان اللذان يتم تبادلهما هما الصورتان المرسومتان على نصفي الشبكية المجاورتين للأنف. إن مثل هذا التبادل ضروري لإظهار صورة واحدة فقط من خلال دمج الصورتين اللتين التقطتهما العينين مع التأكيد على أن المنطقة الوسطى من الصورة التي تقع أمام الأنف يتم إلتقاطها من كلا العينين. إن عملية إظهار صورة واحدة من خلال دمج صورتين مأخوذتين من عينين أو كميرتين عملية بالغة التعقيد فإزاحة مهما صغرت بين الصورتين المتراكبتين سينتج عنها صورة مشوشة ولكن مركز الإبصار في الدماغ يقوم بمعالجة بالغة التعقيد للصورتين ليظهر صورة أكثر وضوحا من الصورتين كل على انفراد. لا يذهب العصب البصري مباشرة إلى مركز الإبصار الذي يقع في مؤخرة الدماغ بل يمر على منطقة في قاع الدماغ يسمى الثالموس والذي يتكون من ستة طبقات ترتبط الألياف البصرية بالخلايا العصبية الموجودة في الطبقة الأولى بينما تخرج من خلايا الطبقة الأخيرة ألياف بصرية تنقل الإشارات المعالجة مبدئيا إلى مركز
الإبصار. يتكون مركز الإبصار بدوره من خمسة طبقات تحتوي على ما يزيد عن ثلاثمائة مليون خلية عصبية ترتبط ببعضها البعض بطريقة محددة ومعقدة. وقد وجد العلماء أن كل طبقة تقوم بمعالجة محددة لإشارات الصور القادمة إليها فبعضها للتعرف على الأشياء وبعضها للتعرف على الحركة وبعضها لرسم صورة ثلاثية الأبعاد وبعضها للتحكم بحركة العين والعدسة والحدقة والجفون. إن ربط مليون ومائتي ألف ليف بصري بخلايا المركز البصري بحيث تكون هذه الخلايا مرتبة مكانيا حسب ترتيب الخلايا الحساسة للضوء الموجودة في الشبكية معجزة من معجزات النظام البصري. وللتدليل على مدى تعقيد هذه العملية نذكر أن مهندسي الاتصالات يواجهون صعوبة بالغة عند ربط المقاسم الهاتفية بكبلات تحتوي على عدة مئات من الأسلاك فيقومون بتلوين وترقيم هذه الأسلاك لكي لا تختلط الإشارات المنقولة عليها وتذهب في غير اتجاهاتها. إن التعقيد الموجود في تركيب العين البشرية لا يكاد يذكر مع تركيب مركز الإبصار والبرمجيات الموجودة فيه بحيث يمكن للبشر وغيرهم من الكائنات من رؤية الأشياء. إن الصور ترتسم في مركز الإبصار على شكل إشارات عصبية تتحرك بشكل متواصل بين ملايين الخلايا العصبية ولكن العلماء لا زالوا عاجزين تماما عن إيجاد تفسير مقنع للطريقة التي يدرك بها الإنسان الصور. لقد بدأ العلماء حديثا بكشف بعض طرق معالجة الإشارات الكهربائية القادمة من الشبكية عبر العصب البصري والتي يقدر العلماء معدل نقلها بعشرة ملايين نبضة في الثانية وتبين لهم مدى ضخامة المعالجة التي يقوم بها الدماغ للصور والتي لا يمكن أن تقوم بها آلاف الحواسيب الجبارة. إن الصور التي ترتسم على الشبكية في كلا العينين هي صور ثنائية الأبعاد وعلى مركز الإبصار أن يعالج الصورتين لينتج منهما صورة ثلاثية الأبعاد ومتحركة. ومن معجزات نظام الإبصار هو قدرته على التعرف على الأشياء الموجودة في الصور الملتقطة وقد يظن غير العارف أن هذه عملية سهلة ولكنه سيغير رأيه إذا ما علم أن العلماء قد كتبوا برامج بالغة التعقيد في حواسيب جبارة لكي تتعرف هذه الحواسيب على أشكال بسيطة موجودة في صور إلتقطتها الكميرات. أما العملية الأعقد من عملية التعرف على الشكل الثابت هي عملية إكتشاف الأشياء المتحركة في الصور المتتابعة ولقد أجرى العلماء عدد لا يحصى من الأبحاث لكشف سر الطريقة التي يعمل به الدماغ لإجراء مثل هذه العملية. أما عملية تخزين ملايين البلايين من المشاهد التي تلتقطها عيني الإنسان على مدى عمره في هذه الذاكرة المحدودة فلا زال العلماء يخمنون تخمينا كيف تنجز وفي أي مكان تتم.
إن كل ما شرحناه من تعقيد في تركيب مكونات العين ومركز الإبصار يتضاءل تماما عندما نعلم كيف أن هذه العين بكامل مكوناتها يبدأ تصنيعها من خلية واحدة فقط فبعد أن تنقسم هذه الخلية إلى عدد كاف من الخلايا تتولى واحدة منها فقط تصنيع الصلبة (بياض العين) وعندما تصل إلى امتدادها وهي منطقة القرنية تبدأ بإنتاج خلايا شفافة للضوء وبتحدب يختلف عن ذلك الذي للصلبة. وتتولى خلية أخرى تصنيع المشيمة وما فيها من ملايين الشعيرات الدموية وعندما تصل إلى المقدمة تبدأ بتصنيع القزحية وما فيها من عضلات ترتبط بأعصاب تصل إلى الدماغ. وتتولى خلية أخرى تصنيع الشبكية وما تحويه من مئات الملايين من العصي والمخاريط ومئات الملايين من الخلايا العصبية كل في مكانها الصحيح ثم تقوم بربط هذه الخلايا بطريقة لا مجال للخطأ فيها وإلا فشلت العين بالقيام بوظيفتها. وتتولى خلية تصنيع العدسة البلورية بأبعاد محددة بحيث لا تجد أي فرق يذكر في أبعاد عدسات جميع أفراد البشر وتقوم كذلك بتحديد معامل الإنكسار في كل جزء من أجزائها طبقا لحسابات بالغة الدقة. وهكذا الحال لبقية مكونات العين من جفون ورموش وألياف بصرية وغدد دمعية. والأعجب من كل هذا أن تقوم خلية واحدة بتصنيع مركز الإبصار في مؤخرة الدماغ ومن ثم يتم ربطه بمليون ومائتي ألف ليف بصري مرتبطة بالخلايا العصبية الموجودة في الشبكية على مسافة ليست بالقليلة. إن العقل يكاد أن يتصدع عندما تفكر كيف أن خلية لا ترى ولا تسمع تقوم من تلقاء نفسها بتصنيع عدسة بمقاسات بالغة الدقة وعندما تنتهي من تصنيعها بالأبعاد المطلوبة تتوقف عن الانقسام وهكذا الحال مع باقي المكونات. بل إن العقل ليجفل والجلد ليقشعر عندما يفكر المرء كيف أن هذه الخلايا تنقسم في أماكن متباعدة من العين ثم يكون الناتج أن المسافة بين مركز الشبكية ومنتصف القرنية أربعة وعشرون ملليمتر بنسبة خطأ لا تكاد تذكر عند بلايين البلايين من البشر وكذالك الحال مع أعين بقية الكائنات الحية والتي لا يعلم عدد أنواعها وأعداد كل نوع منها إلا الله سبحانه وتعالى!
إن في تصميم النظام البصري من التعقيد ما يحتاج شرحه من قبل مختصين مئات بل آلاف الكتب ولكن في هذا الشرح ما يكفي لإقناع القارئ بأن منتهى الجهل أن يصدق إنسان عاقل أن الصدفة بإمكانها أن تهتدي لطريقة تصنيع هذه الأجهزة المعقدة. فلكي تتمكن الصدفة من اختراع نظام البصر للكائنات عليها أن تعرف أولا أن هنالك مصدرا للضوء وهو الشمس يصل ضوؤها إلى الأرض التي تعيش عليها هذه الكائنات. وعليها أن تعرف ثانيا أن هذا الضوء عندما يسقط على الأشياء ينعكس عنها بدرجات متفاوتة وعليها أن تستفيد من هذه الضوء المنعكس لترسم صورة عن الأشياء في دماغ هذه الكائنات. ولكي تتمكن الصدفة من رسم صورة للأشياء عليها أن تعرف أن هذا لا يمكن أن يتم إلا بوجود جهاز عجيب وهو العدسة التي يسقط الضوء المنعكس عليها من جهة فتبني صورة للشيء على الجهة الأخرى. إن من عنده أدنى علم بنظام العدسات لا بد أن يتساءل عن الطريقة التي تمكنت بها الصدفة من كتابة برامج لتصنيع عدسات الأعين بالمقاسات الصحيحة لملايين الكائنات الحية والطريقة التي تمكنت بها من تحديد البعد بين العدسة والشبكية لتكون الصورة المتكونة عليها أوضح ما يمكن. وكذلك الطريقة التي تمكنت بها من تصنيع الخلايا الحساسة للطيف المرئي من ضوء الشمس والطريقة التي حددت بها أعداد هذه الخلايا على شبكيات هذه الكائنات. ومما يثير العجب أن الصدفة قد أدركت أن العدسة الثابتة الأبعاد لا تساعد الكائن على رؤية الأشياء القريبة والبعيدة بنفس الوضوح فاخترعت لذلك نظام تحكم بالغ الإتقان يستطيع أن يغير أبعاد العدسة بطريقة تلقائية حسب بعد المنظر عن العين. ولكي يدرك القارئ مدى صعوبة تغيير أبعاد العدسة في الأعين نذكره بأنه على الرغم من التفوق التقني الذي أحرزه البشر في هذا العصر إلا أنهم لا زالوا يستخدمون العدسات الثابتة في كميراتهم ويضطرون لتحريك العدسة لتوضيح الصور الملتقطة. إن تكون صورة للشيء على سطح ما لا يعني أيّ شيء للكائن إذا لم يتم نقل هذه الصورة إلى دماغه ولذلك فعلى الصدفة أن تخترع خلايا حساسة لشدة الضوء يتم ترصيع السطح الذي تكونت عليه الصورة بعدد كاف منها ومن ثم تقوم بربط كل خلية من هذه الخلايا الحساسة بخلايا عصبية في الدماغ باستخدام عدد مماثل من الخيوط العصبية. إن جميع هذه الاختراعات العجيبة والمعقدة لا تكاد تذكر في تعقيدها مع الطريقة التي سيبني بها الدماغ صورة للأشياء التي يمكن للكائن الحي أن يحس بها ولا زال علماء البشر يضربون أخماسا بأسداس وهم يحاولون فهم الآلية التي يستخدمها الدماغ للإحساس بصور الأشياء. إن الحواسيب التي تقوم بتخزين الصور الثابتة والمتحركة التي تلتقطها الكاميرات الموصولة بها لا يمكنها أن تدرك هذه الصور كما تدركها أدمغة الحيوانات بما فيها الإنسان. أما أعجب ما عملته الصدفة كما يدعي الملحدون في نظام الإبصار فهو رؤية الأشياء بألوانها الطبيعية وكان على الصدفة لتحقيق هذا الهدف أن تكتشف حقيقة فيزيائية بالغة الأهمية في مجال الضوء وهي أنه بالإمكان الحصول على أيّ لون من خلال دمج ثلاثة ألوان أساسية بنسب متفاوتة. وبناء على ذلك فقد تم تصنيع شبكية العين بحيث تتكون من أربعة أنواع من الخلايا الحساسة للضوء واحدة منها تستجيب لشدة الضوء بينما تستجيب الثلاثة المتبقية للألوان الأساسية الثلاثة وهي الأحمر والأخضر والأزرق. وعلى الرغم من كل هذه المعجزات في تركيب العين إلا أن بعض علماء البشر ممن يعرفون هذا الحقائق لا زالوا يصرون على أن الصدفة هي التي قامت بتصميم هذه العين العجيبة وصدق الله العظيم القائل فيهم "فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ " الحج 46.
وأخيرا فإن نظام الإبصار يتكون من عدد كبير من المكونات وفي كل مكون منها من تعقيد التركيب ما عجز العلماء من كشف كثير من أسراره حتى الآن ولهذا فإن خللا في أحد هذه المكونات كفيل بتعطيل كامل هذا النظام. إن احتمالية حدوث عطل في أحد مكونات هذا النظام المعقد كبيرة جدا حيث تزداد هذه الاحتمالية مع زيادة عدد مكوناته وزيادة عمره التشغيلي. فمن السهل جدا لولا تقدير الله وحفظه أن تفقد القرنية أو العدسة أو ماء العين شفافيتها أو تتعطل عضلات العين أو القزحية أو عضلات العدسة أو أن تدمر الشبكية من الضوء الزائد أو تتلف الألياف العصبية أو أن ينقص إمداد الخلايا الحساسة للضوء من البروتينات اللازمة لعملها أو إلى آلاف الأعطال الممكنة وصدق الله العظيم القائل "قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ" الملك 23 والقائل سبحانه "قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ" الأنعام 46.
للتواصل مع الكاتب:
mabbadi@just.edu.jo
المراجع
1- .القرآن الكريم
2- معجزة خلق الإنسان، هارون يحيى، موقع هارون يحيى على الانترنت.
3- http://hyperphysics.phy-astr.gsu.edu/hbase/vision/rodcone.html#c3
4- http://4colorvision.com/document.htm
5- http://webvision.med.utah.edu/
6- http://www.intelligentdesign.org/