بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين
«التمويل الأجنبي» وديمقراطية المال!! / د. عبد الرحمن عبد الغني
يدور جدل في بعض أوساط الإعلام والفكر العربي، خاصة في تونس ومصر، حول ما يدعو البعض دور "المال الأجنبي" في الحياة السياسية المحلية، ويرى البعض بذلك خطرا على استقلالية الدولة؛ ويذهب البعض الآخر بأن لا غبار عليه. التبريرات مختلفة ومتنوعة.
وتعود إثارة الموضوع في الرأي العام إلى الاعتقاد السائد لحد بعيد أن الثورات العربية قد حسمت الصراع أو تكاد لصالحها. يستطيع المرء أن يلمس إسقاطات هذا الجدل في الخطاب السياسي الفلسطيني أيضا رغم أنه لا توجد ثورة ولا هم يحزنون. نتيجة لهذا الجدل، شعر العديد من القائمين على رؤوس الهيئات والمؤسسات المدنية والأهلية ومناصريهم بمخاطر تهدد مستقبل مؤسساتهم وراحوا يدافعون عن جدواها. وكما هو معروف، فقد جاء التصعيد الإعلامي على أرضية طلب الإدارة الأمريكية من الكونغرس الموافقة على 45 أو 40 مليون دولار كـ"مساعدة" للمؤسسات المدنية والأهلية في جمهورية مصر العربية.
هل يشكل "التمويل الأجنبي" وحده خطرا قويا على حرية الشعوب، كأفراد وجماعة، في اختيار مؤسساتها التمثيلية؟ سؤال في غاية من البساطة.
يرى نقاد أن تمويل المؤسسات المدنية من مصادر خارجية أداة لممارسة النفوذ، وربما للضغط في حالات وظروف معينة، وانتقاصا من استقلالية البلد وسيادته وعبئا عند أخذ القرار المستقل في مجالات معينة وأصعدة ذات علاقة ببلدان مصادر التمويل. ويمكن أن يشمل هذا النفوذ والتأثير في عملية انتخابات ممثلي الشعب للمؤسسات التمثيلية. وهذا ما يبرر مخاوف المعارضة لأشكال التمويل من خارج الدولة من منظور استدعاه التحول الديمقراطي في الثورات العربية؛ "لا يوجد لوجه الله" أو "دعم الديمقراطية وحقوق الإنسان" دون هدف في الحياة السياسية وحتى الاجتماعية وبالطبع لا ينطبق هذا سوى على المثاليين ومن يصفهم البعض بالمجانين. وهؤلاء قلة في جميع المجتمعات الإنسانية.
لا يقتصر استلاب حرية الفرد في الاختيار، وبالتالي استقلالية الدولة وسيادتها على تمويل مادي معين، فوسائل الاستلاب لا لون خاصا بها، ولا شكل وحيدا نظرا لتعددها. ومن هنا فإن التمويل الأجنبي لا يتعدى أحد أشكال الاستلاب في الاختيار الحر المستقل على صعيد الفرد والدولة.
ويبدو لي أن مخاطر رأس المال المحلي الذي يأخذ شكل التبرعات والهبات، سواء كان للأحزاب و\أو الأفراد العاملين في الحياة السياسية أشد وأقوى، وصعوبة مراقبته ومحاسبته من قبل مؤسسات الدولة أكثر تعقيدا، خاصة في ما يدعى بالدول النامية ومجتمعاتها. ولا شك في أن الثورات العربية ستواجه هذه المشاكل إذا نجحت في إعادة هيكلة الدولة وإصلاح الأولويات الاجتماعية. وإذا تداخل هذان العنصران وتحالفا- التمويل الأجنبي والمحلي- فهنا الطامة الكبرى. هذا هو التحدي الأكبر الذي ستواجهه الثورات العربية في المستقبل.
الولايات المتحدة خير مثال يعكس نفوذ أصحاب رؤوس الأموال بصوره واضحة. فقد أسهمت طبيعة النظام السياسي في نشوء ديمقراطية أليغاركية، حيث تكاد شريحة اجتماعية ذات إمكانيات اقتصادية هائلة تحتكر الحياة السياسية بصورة مباشرة أو غير مباشرة. لم يستطع أوباما تنفيذ سياسته المالية والاجتماعية بسبب المعارضة الشديدة لها في الكونغرس واضطر إلى تعديل سياسته الاجتماعية. كذلك لم يستطع رفع الضرائب على الشركات الضخمة عندما باتت الأزمة الاقتصادية تهدد نفوذ الولايات المتحدة في الاقتصاد العالمي، لم يكن أوباما اشتراكيا ولم يكن مناصرا للاشتراكية. فهو ابن النظام نفسه. أما حاجات المنافسة الانتخابية في النظام السياسي للتبرعات والهبات هناك فحدث ولا حرج.

ويمكن ممارسة التأثير والنفوذ بأشكال تبدو غريبة وغير مرئية. عندما زار بنيامين نتنياهو الولايات المتحدة في شهر أيار في عام 2011 وألقى خطابا في الكونغرس قوبل بعواصف تصفيق ووقوف أعضاء الكونغرس بلغ 29 مرة كما عدها أحد الإعلاميين. وللأمانة، عندما شاهدت بعض مقاطع خطابه وعواصف تصفيق تذكرت عواصف تصفيق مجلس الشعب السوري عندما كان يلقي الرئيس السوري خطابا رغم الفارق الجوهري بين كلا النظامين. فقد تجلت صورة سريالية في مخيلتي وتساءلت في نفسي: ما الفارق بين كلتا الظاهرتين؟ والسؤال الذي لا يقل أهمية: كيف نستطيع تفسير حملات التصفيق لنتنياهو بين الحين والآخر؟ رئيس حكومة دولة صغيرة أمام ممثلي أقوى وأغنى دولة في العالم، ناهيك عن علاقات التبعية على أصعدة مختلفة يقابل بعواصف تصفيق كهذه والمنافسة في الوقوف. هل يكفي تعليل ذلك بسبب ما يعتقد كلا الطرفين من قيم مشتركة ينفردان بها فقط؟ أم بسبب التراث الفكري اليهودي\ المسيحي أيضا فقط؟ ماذا كان يشد أعضاء الكونغرس في هذه المباراة العاصفة؟
يعرف كل عضو في الكونغرس، خاصة في مجلس الشيوخ، أن الانتخابات ستجري بعد سنة أو أكثر. ولا تقل حاجة كل عضو للتبرعات والهبات والدعم في وسائل الإعلام أهمية "الصوت اليهودي". هذه الحاجة في صميم ذهنيته السياسية. وإذا أراد تغييبها عندها سيضع مستقبله السياسي على كف عفريت. هذه طبيعة ديمقراطية المال في أجلى صورها. وتجب الإضافة أن هذه الظاهرة عامة في الديمقراطيات البرلمانية رغم القيود القانوينة من بلد لآخر.
يكاد يكون إجماعا أن بعض البلدان العربية يقف أمام منعطف في حياته السياسية، بعضه سيبدأ من نقطة الصفر تقريبا، كليبيا، وبعضه الآخر لن يستطيع هدم ماضيه كليا كمصر.
والسؤال المركزي: هل ستكتفي النخب السياسية بديمقراطية المال، أي بديمقراطية سياسية، كما هي الحالة السائدة في الديمقراطية في البلدان الأمريكية والأوروبية، أم ستفتش عن نموذج آخر يوفق بين الديمقراطية السياسية والاجتماعية لضمان قدرة المواطن على ممارسة حرية الإرادة، وتحد من مخاطر ديمقراطية المال ونفوذ مؤسساتها المدنية والدينية على الأقل؟ هنا تبرز الحاجة إلى صمامات جديدة لدرء هذه المخاطر.

المصدر: العرب أونلاين