بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين
ميدان التحرير.. ميزان التقدير / أمير سعيد
فجأة اشتعل التحرير من جديد؛ فسقط قتيلان وأصيب نحو سبعمائة متظاهر في أحداث مؤسفة وقعت إثر فض اعتصام لنحو مائتي لمن قيل إنهم أهالي شهداء 25 يناير ومصابيها و"نشطاء" متضامنون.
والأحداث وإن بدت متوقعة نسبياً في ظل حرص السلطات على فض الاعتصامات في الميدان والحؤول دون تحول المليونيات إلى اعتصامات تشكل صداعاً مزمناً للنظام الحالي، إلا أن تفجر الأحداث قبل 9 أيام من الانتخابات لا يعني سوى أن طرفاً ما يريد أن ينسف المسار الانتخابي؛ فمهما كانت الأسباب مقبولة للتظاهر أو الاعتصام فإن التوقيت كان مريب جداً، ووجود شخصيات مريبة هي الأخرى في قلب الحدث يحملنا على الشك ذاته في أهداف هذا التصعيد..
ويتصور أن أي مناهضة لممارسات استبدادية تطل برأسها ينبغي أن تؤجل لما بعد الانتخابات البرلمانية، وأن الانتخابات هي فرصة مصر الوحيدة في الوقوف على أرضية جديدة متقدمة لإحداث التغيير ومقاومة قوى الرجعية المباركية، والبدء بكفاح جديد ولكن بعد اكتساب بعض الأرض لقطع المسافة في الطريق الصحيح.
ويمكن لاعتصام كمثل هذا أن يحقق هدفاً أكبر إذا ما أنجز بعد الانتخابات التي يضيق الوقت قبل البدء في إجرائها، أما إذا كانت النية مبيتة لإلغاء الانتخابات واختلاق الذرائع، فمن الواجب ألا يشارك في تلك الفوضى إصلاحيون عقلاء؛ فالقمع لابد أن يزول وأن تقف كل القوى ضده، ولابد من إدانته مهما كانت مبرراته وينبغي أن تعمل كل القوى الحية في المجتمع المصري على منع تكراره والمطالبة بالتحقيق الجاد فيه، ولكن بعد وضع الأهداف على الطاولة، وترتيبها بشكل واضح لا يخضع للعواطف والمشاعر التي لا تصنع سياسة وإنما تسبب تراجعاً.
ليس هذا تخاذلاً ولا انزواءً، وإنما رغبة في أن نضع القاطرة على السكة الصحيحة، وهي لن تكون ما دمنا نقدم المؤجل ونؤجل المقدم؛ فالحكمة لا تعني فعل الشيء المناسب فقط، وإنما تعني أن يحدث ذلك في الوقت والمكان والظرف المناسب، وهذه الثلاثة ليست متوفرة الآن.
وإلغاء الانتخابات البرلمانية المزمعة قبل أقل من أسبوعين لم يزل وارداً إذا ما ترافقت ثنائية الاستفزاز والتصعيد التي تمارس السلطة أحدها، والشباب "الناشط" الثاني، والنتيجة تحول دراماتيكي في المشهد السياسي وصولاً إلى عرقلة المسار الانتخابي..
وقضية الوثيقة تعد مسألة حياة أو موت للسلطة ستواصل الاستفزاز بها وبغيرها، وفي المقابل فإن عرقلة الانتخابات هدف قوى سياسية فاشلة، والثمن سيدفعه الإصلاحيون وحدهم.
وإذا ما تأملنا مثلاً بيان ائتلاف شباب الثورة الصادر في وقت متأخر من ليلة الأحداث لوجدناه يحوي أموراً واقعية ومطالب عادلة كإجراء تحقيق ورفض وثيقة السلمي ووقف الضباط المتورطين في قتل الثوار ووقف المحاكمات العسكرية، لكننا في مقابل ذلك سنفاجأ ببنود أخرى تبرهن على بعض مخاوف القوى الإصلاحية من هذا التصعيد، ومنها مطلب إقالة وزارة عصام شرف التي وإن كانت تعبر عن الفلول أكثر من تعبيرها عن الثورة وكان بعضها من اختيار "الثوار"، وأثبتت فشلاً ذريعاً، إلا أن إقالتها الآن ليس له تفسير آخر سوى تعبيد الطريق لإلغاء أو تأجيل الانتخابات البرلمانية، لأنه بطبيعة الحال ليس ثمة رئيس وزراء يمكنه أن يشكل حكومة ويحدث حالة تناغم بينها ويتمكن مع هذا من إدارة وزارة الداخلية العتيدة ويقوم بهذا كله في أسبوع واحد قبل الانتخابات؟! فالمنطقي والمقبول في مثل هذه الأمور أن يقوم المجلس العسكري في حال قبل استقالة الوزارة أو أقالها تحت ضغط الائتلاف وغيره بتكليفها بإدارة شؤون البلاد لحين تشكيل حكومة أخرى.. فهل يا ترى يقبل "الثوار" بأن تكون الحكومة الجديدة منتخبة من الشعب ستكون مفرزة حينئذ من برلمان منتخب أم يفضلون اختيارها بالتعيين مثلما شاركوا من قبل في حكومة شرف الفاشلة؟! ومنها كذلك تعليق مشاركة "أحزاب الائتلاف" حملتها الانتخابية لحين التحقيق في الأحداث بعد انتهائها، وهو ما يعني أن الائتلاف لا يضع في اعتباره ضرورة إنجاز الاستحقاق الانتخابي في موعده المزمع، وهو ما يعني قبولاً ضمنياً لتأجيل الانتخابات البرلمانية!
والواقع أن أحداث التحرير قد أثارت حالة من الضبابية القاتمة تحول دون رؤية المستقبل السياسي في مصر، وأحدثت تبعاً لذلك تبايناً في المواقف الإسلامية والوطنية حيال الانخراط والمساندة من البعض وفقاً لرؤيته في هذه الاضطرابات أو الابتعاد والنأي عنها تجنباً للتورط فيها والرهان على خسارة ما تبقت من مكاسب "ثورية". والذي أراه في نظري أن اختيار الحل الأخير هو الأقرب للصواب في مثل هذه الأمور تأسيساً على وضع تصورين عن المستقبل في ضوء توقع احتمال إجراء الانتخابات القادمة:
التصور الأول يقوم على افتراض أن الانتخابات القادمة كانت ستمر بسلام؛ فإذن كان تعويقها أمر خطير واجتهاد خاطئ، لأنه لابد أن وضع القدم على درج أعلى في سلم التفاوض والتأثير، وهي هنا مئات أو حتى عشرات النواب بالمجلس، ولن يمنع ذلك أحد حينها من وضع قدمه في الأمام إذ حصلت أي انتكاسة وسيكون موقفه أقوى؛ فإن لم تحصل انتكاسات ومضت الأمور كما هو معلن فالشكر للمجلس ورجاله على وفائهم حينئذ!
والتصور الثاني يقوم على افتراض أن الانتخابات القادمة ستلغى أو تزور أو تؤجل أو تعرقل؛ فإذن سيمكن حشد الملايين حينئذ، وستكون للإصلاحيين شرعية أعلى، وسيستقيم الطريق ولن يجدوا صوتاً إلا نشازاً يعارضهم في الاعتصام ليس بالميدان ولكن حتى أبعد من هذا.
هذان سيناريوهان محتملان، وكلاهما يفضي إلى مسار واضح..
والسؤال هو: لماذا إذن كانت مليونية الجمعة؟
والجواب: لعرقلة الانتكاس والضغط باتجاه إجراء الانتخابات في مواعيدها المؤقتة، والتسريع بانتخابات الرئاسة.
ونحن لا ينبغي أن نبني توقعنا المستقبلي على أن الآخرين سينسجون حبالهم حول أعناقنا سواء أصعدنا أم اكتفينا بالتصعيد أو حتى سكننا في مواقفنا، ولنذكر مثلاً أنه حينما حصل الهجوم الأمريكي على أفغانستان قيل وقتها أن واشنطن كانت تنوي الهجوم سواء حصلت حوادث سبتمبر أم لم تحدث.. وهذا في تقديري لم يكن مبرراً معقولاً لمن منحوا الخصم مبرره لتدمير دولة كانت في أقل تقدير غير تابعة لواشنطن، ومستقلة عنها.
الآن أعتقد أن المبرر ذاته سيقال عن الميدان - وإن كان سيساق في حالتنا المصرية من أطراف تختلف بطبيعة الحال عن طالبان ومناصريها، والذين برر بعضهم أحداث سبتمبر حينها - وأن التصعيد لن يحول دون نية مبيتة لتقويض الديمقراطية والمسار الانتخابي.. وأن لا مجال إلا التصعيد مع السلطة لأن الانتخابات حتى لو أجريت فستزور كما كان نظام مبارك يفعل، وفي تقديري أن هذا تبرير غير مناسب يعطي الأداة للسلطة لكي تذبح ما تبقى من الثورة..
وعلى أي حالٍ؛ فمثل هذه الأمور المبهمة تحتاج إلى رؤى معمقة من أطراف توسع دائرة التفكير فيها لاتخاذ القرار المناسب فيما يلتبس على الكثيرين، وهو ما نشهده الآن في مصر

المصدر: المسلم