بسم الله الرحمن الرحيم
أذكر الله
فما هي مواقف الصحابة من معاوية ؟!
إذا رجعنا إلى مواقف الصحابة الصحيحة نجدها تدل على فضل معاوية وكرمه وحسن سيرته وتكشف عن رضاهم عنه وعن ولايته , وتدل على نقيض ما ينسبه إليه الغالون المبغضون له من الكفر والنفاق والفسق والخداع .
فعمر بن الخطاب ولى معاوية خلفا لأخيه يزيد بعد موته على الشام , وهو آنذاك ثغر من ثغور المسلمين(7) .
وقد بين عمر بن الخطاب منزلة أمرائه على الأمصار قبيل وفاته فقال :" اللهم إنّي أُشهدك على أمراء الأمصار، وإنّي إنّما بعثتُهُم عليهم لِيَعدلوا عليهم، ولِيُعلّموا الناسَ دينَهم وسُنَّةَ نبيّهم صلى الله عليه وسلم، ويَقسموا فيهم فَيْئَهُم، ويَرفَعوا إلَيَّ ما أشكلَ عليهم مِن أَمرِهم"(8) .
فقد وثق عمر في معاوية ورضيه واليا على ثغر من ثغور المسلمين , فلو كان معاوية كافرا أو منافقا أو فاسقا أو غير مأمون الديانة , فهل يقبل به عمر أميرا له على المسلمين , فإذا كان عمر لم يرض بكافر أن يكون كاتبا عند بعض أمرائه فكيف يولي من هو كافر منافق ؟!
وقد توقف عدد من العلماء عند موقف عمر هذا , وعدوه دليلا ظاهرا على إيمان معاوية وحسن سيرته , وفي هذا يقول الذهبي :" حسبك بمن يؤمره عمر ثم عثمان على إقليم – وهو ثغر – فيضبطه ويقوم به أتم قيام ويرضى الناس بسخائه وحلمه وإن كان بعضهم تألم مرة منه وكذلك فليكن الملك"(9) .
ويكشف ابن تيمية عن دلالة فعل عمر بكلام مطول فيقول :" لما مات يزيد بن أبى سفيان في خلافة عمر استعمل أخاه معاوية وكان عمر بن الخطاب من أعظم الناس فراسة وأخبرهم بالرجال وأقومهم بالحق , وأعلمهم به ... ولا استعمل عمر قط , بل ولا أبو بكر على المسلمين منافقا , ولا استعملا من أقاربهما , ولا كان تأخذهما في الله لومة لائم , بل لما قاتلا أهل الردة وأعادوهم إلى الإسلام منعوهم ركوب الخيل وحمل السلاح حتى تظهر صحة توبتهم , وكان عمر يقول لسعد بن أبى وقاص وهو أمير العراق : لا تستعمل أحدا منهم ولا تشاورهم في الحرب , فإنهم كانوا أمراء أكابر مثل طليحة الأسدي والأقرع بن حابس وعيينة بن حصن والأشعث بن قيس الكندي وأمثالهم , فهؤلاء لما تخوف أبو بكر وعمر منهم نوع نفاق لم يولهم على المسلمين
فلو كان عمرو بن العاص ومعاوية بن أبى سفيان وأمثالهما ممن يتخوف منهما النفاق لم يولوا على المسلمين"(10) .
وأما علي بن أبي طالب رضي الله عنه , فإن مواقفه الصحيحة تدل على أنه لا يحكم على معاوية بالكفر والنفاق , بل يعده مسلما عدلا , وتدل على أنه حفظ لمعاوية صحبته للنبي صلى الله عليه وسلم واعتبر له اجتهاده , فقد دارت بينه وبين معاوية حرب ضارية دامت خمس سنوات , أزهقت فيها أنفس كثير من المسلمين وأهلكت فيها أموالهم , فلو كان علي يعرف من معاوية كفرا أو نفاقا أو فسقا أو استخفافا بالدين أو عدم مبالة به أو بيعا للأصنام أو شربا للخمر لذكره وكشفه للناس وبينه لهم حتى ينصرف الناس عن القتال والحرب , ويقي بذلك دماء المسلمين , ولكنه لم يفعل شيئا من ذلك .
بل ثبت عنه أنه قال :" قتلاي وقتلى معاوية في الجنة"(11) , وكان يدعو لأهل الشام بالمغفرة .
ولو قارنا بين حال علي رضي الله عنه مع الخوارج وبين حاله مع معاوية وأهل الشام لوجدنا في ذلك دليلا قويا على حسن موقفه من معاوية , فإن عليا كان فرحا بقتاله للخوارج وكان يحدث الناس بالأحاديث التي وردت عن النبي عليه الصلاة والسلام في شأنهم ويقسم لهم بذلك ؛ لأنه يرى أن قتاله معهم مشروع مع أنه لم يكن يكفرهم , ولكنه في قتاله مع أهل الشام لم يكن كذلك , ولم يظهر الفرح بذلك بل كان مترددا نادما حزينا على ما أهرق فيها من دماء المسلمين(12) , ولم يوافقه على قتاله معهم كثير من الصحابة واعتزلوا الفتنة .
فلو كان معاوية كافرا أو فاسقا أو منافقا , فلماذا لم يكن علي فرحا بقتاله , ولماذا لم يشارك كثير من كبار الصحابة في القتال ؟! هل يعقل أن تقوم حرب بين مسلم وكافر ثم لا يشارك الصحابة مع المسلم في قتال الكافر؟!!
وإذا انتقلنا إلى موقف الحسن بن علي رضي الله عنه نجده كذلك يدل على ما يدل عليه صنيع أبيه , فإنه تنازل لمعاوية عن الحكم , وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أثنى على هذا الصنيع وبشر به , فقال : " إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين "(13) .
وقد وافق الحسن من كان معه من الصحابة كأخيه الحسين وغيره , وفي بيان هذا يقول الأوزاعي :" أدركتْ خلافة معاوية عدة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم : سعد وأسامة وجابر وابن عمر وزيد بن ثابت ومسلمة بن مخلد وأبو سعيد ورافع بن خديج وأبو أمامة وأنس بن مالك ، ورجال أكثر ممن سمينا بأضعاف مضاعفة ، كانوا مصابيح الهدى ، وأوعية العلم ، حضروا من الكتاب تنزيله ، وأخذوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تأويله , ومن التابعين لهم بإحسان إن شاء الله منهم : المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث وسعيد بن المسيّب وعروة بن الزبير وعبد الله بن محيريز ، في أشباه لهم لم ينزعوا يداً عن مجامعة في أمة محمد"(14) .
فلوا كان معاوية كافرا أو منافقا أو فاسقا كيف يصح للحسن وللصحابة معه أن يتنازلوا بالولاية له ؟!! , وكيف يمتدح النبي صلى الله عليه وسلم هذا الصنيع ؟!!وكيف لهؤلاء الجلة من الصحابة والتابعين أن يتواردوا على السكوت عن الكفر والنفاق والفسق ؟!!
وأما ابن عباس رضي الله عنهما , فقد قيل له : : هل لك في أمير المؤمنين معاوية فإنه ما أوتر إلا بواحدة ؟ فقال رضي الله عنه : إنه فقيه"(15) , وكان يقول عن معاوية :" : ما رأيت رجلا كان أخلق للملك من معاوية"(16) .
فها هو ابن عباس وهو من آل البيت وممن كان مع علي , يصف معاوية بتلك الأوصاف , فهل من المقبول عقلا أن يقول هذا القول في رجل يراه كافرا أو فاسقا أو منافقا؟!
والذي يستقرئ حال مجمل الصحابة ومواقفهم من معاوية قبل ملكه وبعده يجد أنها تسير على وتيرة واحدة , وأنه كان يسود بينهم حالة من الرضا والقبول لدينه وحكمه .
وقد مدحه عدد من أجلة الصحابة كسعد بن أبي وقاص وابن عمر وأبي هريرة وأبي الدرداء وأبي سعيد الخدري وعائشة رضي الله عنهم , وأخبارهم في هذا صحيحة مشهورة فهل من المقبول عقلا أن يتوارد كل هؤلاء الصحابة على كتمان العلم وبيان حال معاوية لو كان عنده ما يقدح في دينه وأمانته؟!
بل روى ابن سعد عن أم علقمة أنها قالت : قَدِمَ معاويةُ بن أبي سفيانَ المدينة، فأرسلَ إلى عائشةَ: أن أَرْسِلي إليَّ بأنبجانيّة رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وشَعْرِه، فأَرْسَلَتْ به معي، حتى دخلْتُ به عليه، فأخذَ الأنبجانيةَ فَلَبسَها، وأخذَ شَعْرَه فدعا بماء فَغَسلَه، فشَرِبَه وأفاضَ على جِلْدِه"(17) .
فلو كان معاوية كافرا أو منافقا لما أرسلت إليه عائشة أنبجانية رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما امتنعت من ذلك .
ثم إنه قد روى عنه عدد من الصحابة الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم , وقد جمع أبو نعيم الأصفهاني عددا منهم فقال عن معاوية :" حدث عنه من الصحابة : عبد الله بن عباس وأبو سعيد الخدري وأبو الدرداء وجرير والنعمان وعبد الله بن عمرو بن العاص ووائل بن حجر وعبد الله بن الزبير"(18) , وقد أحصى بعض الباحثين ثلاثا وعشرين صحابيا رووا عن معاوية الحديث , وبعض هذه الأسانيد جاءت في البخاري ومسلم(19) , وقد نص عدد من العلماء من أهل الاستقراء على أنه ليس هناك أحد من الصحابة والتابعين كان يتهم معاوية بالكذب وفي هذا يقول ابن تيمية عن معاوية وعمرو ابن العاص:" ولم يتهمهم أحد من أوليائهم ، لا محاربوهم ، ولا غير محاربيهم : بالكذب على النبي صلى الله عليه وسلم بل جميع علماء الصحابة والتابعين بعدهم متفقون على أن هؤلاء صادقون على رسول الله ، مأمونون عليه في الرواية عنه"(20) .
فلو كان معاوية كافرا أو فاسقا أو منافقا أو مقدوحا في دينه وأمانته فكيف استساغ أولئك النفر من الصحابة الرواية عنه ؟! وكيف صدقوه في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟!
ويدل حال الصحابة على أنهم كانوا لا يسكتون عن أي مخالفة تقع في الدين سواء كانت من معاوية أو من غيره , وقد اختلف أبو ذر رضي الله عنه مع معاوية في اكتناز المال وشدد أبو ذر على معاوية حتى شكاه إلى عثمان , فهل من المعقول أن يكون معاوية متاجرا في بيع الأصناف في زمن عثمان – كما جاء في القصة التي يعتمد عليها الطاعنون- أو كافرا أو منافقا أو شاربا للخمر أو مستهترا بدين الله ثم يترك أبو ذر وغيره من الصحابة كل ذلك ويقف معه في قضية أقل منها وهي اكتناز المال ؟! ألا يدل اختلافهم ذلك على أن أبا ذر وغيره من الصحابة لم يجدوا عند معاوية ما يوجب له الفسق والكفر وإلا لبادروا على إعلان النكير عليه ؟!
ولما اجتمع معاوية ابن أبي سفيان بكبار الصحابة في آخر أيام خلافته , وهم ابن عمر وابن عباس وعبد الرحمن ابن أبي بكر والحسين بن علي وعبد الله بن الزبير , ليأخذ منهم الإقرار بولاية العهد لابنه يزيد , أنكروا ذلك عليه ولم يؤيدوه على فعله ورأيه(21) , وهذا يدل على أن الصحابة لو كانوا يرون عند معاوية ما يخالف الدين لما سكتوا عنه ولأظهروا المخالفة له , ولكن شيئا من ذلك لم يحدث .