بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين

تأخرنا كثيرا في توجيه تهمة الخيانة العظمى لإعلام مصر / د. زكريا بيومي

منذ وقوع مصر تحت النفوذ ثم الاحتلال البريطاني في منتصف القرن التاسع عشر ويقوم الإعلام الذي كان قاصرا على الصحف والدوريات بدور التزييف والتزوير ولي ذراع الحقائق.

وقبل أن نوضح الدور التاريخي للإعلام، ينبغي أن نشير إلى أن الإعلامي في الغالب يخضع لمن ينفق عليه سواء الأنظمة السياسية أو الإعلام الخاص. وبالتالي أمكن استخدامهم في صناعة أبطال ونجوم لا يستحقون الذكر أو الحط من شأن زعماء حقيقيين لا يرضى عنهم الممول أو المتحكم . ولا يعني هذا أنهم أصحاب قدرات خارقة أو ربما عادية في ذاتهم بل هم منفذون أمناء لمصالحهم وتوجيهات سادتهم.

وفي سبعينيات القرن الماضي، حضرت محاضرة في نقابة الصحفيين للأستاذ فتحي رضوان رحمه الله ذكر فيها أن الإعلام يعني إخبار، والجملة الخبرية عند أهل المنطق تحتمل الصدق والكذب، ولكن في إعلام مصر تحتمل الكذب في الغالب، فإذا ما طالعت حتى صفحة الوفيات فتجدها مليئة بالكذب، فقد يعلن عن وفاة شخص وهو على قيد الحياة لضرورات أمنية أو لإخفاء جريمة والعكس.

أما عن تاريخ الإعلام في مصر، فيعود إلي عصر الخديوي إسماعيل، وكان قاصرا على الصحف المكتوبة. وقد تولاه أشخاص وافدون من الشام تدربت في محافلها الماسونية ودور التنصير الكاثوليكية والإنجليكانية. وتستروا في الحماية الماسونية في مصر التي كانت تحت غطاء الامتيازات الأجنبية، وبالتالي دافعوا عن حقوق الأجانب وأطماعهم في مصر.

ومن هؤلاء كان نيقولا تكلا وأديب إسحاق والصحفي اليهودي الإيطالي يعقوب صنوع المعروف بأبي نظارة الذي أضفي عليه بعض الجهلاء وأرباع المثقفين وحتى الآن صفة الوطنية المصرية لأنه رفع شعار مصر للمصريين، والذي كان يحارب به فكرة الجامعة الإسلامية لصالح اليهود والغرب الاستعماري.

وفي أعقاب قيام ثورة شعب مصر 1919م، سخر المستعمر وسائل الإعلام لصنع شخصية سعد زغلول حتى دفعوه لأن يمتطي زورا ركب الثورة، وهو الذي ذكر في مذكراته أنه لا صلة له بها ولم يشارك في صنعها وأنها ثورة رعاع سرعان ما ستنتهي، وتناست المنظم الأساسي للثورة وهو عبد الرحمن فهمي والشيخ حمد الباسل والزعيم القبطي مكرم عبيد الذي حدد الطابع الإسلامي لهذه الثورة بمقولته المشهورة "أنا مسيحي دينا ومسلم وطنا ولا بد أن أدافع عن دين هذا الوطن وهو الإسلام".

كما زيّف الإعلام شخصية "صفية زغلول" وأطلق عليها ولا يزال إلى الآن لقب أم المصريين وهي ابنة مصطفى باشا فهمي الذي وثق فيه المحتل وولوه رئاسة وزراء مصر على مدى ثلاثة عشر عاما، وظلت وزوجها سعد باشا يتقاضون راتبا من سفارة بريطانيا طوال الحرب العالمية الأولي.

ولم يخذل سعد باشا ثقة المحتل فيه، فدخل في لعبة المفاوضات التي أطالت أمد الاحتلال، ولم يتعظ بموقف زعيم ثورة معاصر، وهو ديفاليرا زعيم الثورة الأيرلندية، الذي رفض الذهاب إلى فرساي وفضل أن يبقى بين الثوار وأناب عنه من يمثله، فإما تحقيق مطالبه أو استمرار الثورة.

والإعلام هو الذي أخفى حقيقة كتاب كبار تاجروا بقلمهم لمن يدفع أكثر كعباس العقاد الذي تنقل بين صحف الحزب الوطني وحزب الوفد ثم السعديين، وإن كان هذا لا ينتقص من قدره كأديب كبير. وكذلك الدكتور طه حسين الذي هاجم حتى العقيدة الإسلامية وتهكم من تاريخ المسلمين. وكذلك نجيب محفوظ الذي دارت قصصه حول سوءات المجتمع واشتغاله بالجنس فقط، فاستحق أن يكافئه اليهود بنوبل.

والإعلام هو الذي زيف دور مصطفي النحاس الذي أتي به المحتل على ظهور الدبابة ليتولي رئاسة الوزارة 1942، ثم لبى بسرعة توجيه أنتوني إيدن وزير خارجية المحتل في تأسيس جامعة الدول العربية وفق دستور لا يثمن ولا يغني من جوع .

ولعب الإعلام دوره المعتاد في عصر عبد الناصر فشوه أعداءه وأخفى أخطاءه ورسم معه مسرحية المنشية التي كانت ذريعة لسحل خصومه من الإخوان المسلمين، وظلوا يذكرون بغباء وجهل أنها الجماعة المحظورة قربانا لسادتهم حتى تغير الحال بعد ثورة يناير2011 فتحولوا كالحرباء إلى موقف جديد ولم يغلبوا أو يخجلوا من تبرير موقفهم.

وظل بعضهم على موقفه لا انتصارا لمبدأ وإنما لمواكبة توجه أصحاب القنوات الخاصة التي يحكمه رأس المال، وعبثا حاولوا تشويه التيار الإسلامي والتخويف من الدولة الدينية حيث رد عليهم الشعب المصري المؤمن الذكي باختيار من يمثله في كل مواطن التأثير في البرلمان والنقابات والطلاب وغيرها .

شوهوا حقيقة الهزيمة في 56 وبيع أم رشراش الذي جعلوه عيدا وطنيا، وهزيمة 67، وقللوا من انتصار 73 بعد أن فتح لهم مجال محدود من الحرية سمح بوجود أتباع التيار الإسلامي والتيار الليبرالي بعد طول تغييب حيث اعتادوا أن يكونوا وحدهم فرسان الحلبة.

ومع التطور الهائل في وسائل الإعلام كثر الطلب عليهم في سوق مبارك، وأصبح الباب مفتوحا لمن يجيد لغة النفاق ليصل إلى السلطة والثروة التي سرقها مبارك من الغلابة في مصر. أما الذي يتأخر الطلب عليه فيسير إلى المعارضة حتى ينتبهوا إليه فيعود إلى اليغمة أو التكية.

لقد اغتر أهل الإعلام وتصوروا أنفسهم فوق أهل العلم الذي يعيشون على فتاته ونسوا أنهم مهما طالت حمايتهم في عصور التزوير والتزييف والتضليل لن تعلو قامتهم على أهله، وكما قال نزار قباني: العلم رغم سياطهم وجلودهم ملك وهم في بابه حجاب.

هم مازالوا في غيهم يعمهون، فيعيشون مع شركاء لهم في نهب ثروة شعب مصر المقهور، وهم شركاء لكل من زادت غطرسته، ووزع الجميع على نفسه الحقوق والألقاب وأحيانا الإتاوات.

إن كل "بدلة ونظارة وكرافته" يلبسها أحدهم هي من عرق فلاح أو عامل أو موظف بسيط، فهؤلاء هم الملاك الحقيقيون لكل وسائل الإعلام وأهل الإعلام وغيره وهم أجراء عندهم، ومن الأدب أن يتصرف الأجير وفق مصالح الملاك وإلا أصبح خائنا.

كما أن اختيار شعب مصر للتيار الأخلاقي ورفض ادعاءات الليبراليين الذين عادوا على متن حاملة الدولارات الأمريكية، والذين يدعون لزواج المثليين والزواج المدني وهدم الكيان الأسري لشعب مصر وفتح الباب لهيمنة أمريكا وإسرائيل، هذا يفرض عليهم الالتزام باختيار المالك الحقيقي الذي يدفع لهم أجرهم وإلا تكون بجاحة وسوء تدبير. فهؤلاء في مجموعهم ينطبق عليهم قول المولى عن الشعراء "يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون".

إنني أهيب بكل فلاح أو عامل أو موظف حتى أساتذة الجامعة في كل ربوع مصر أدعوهم جميعا لأن يقودوا مسيرة كبرى إلى النائب العام ليوجهوا بشكل شعبي تهمة الخيانة العظمى لكل من خالف حق الملاك الحقيقيين، فعاش من عرقهم وخان مصالحهم واختيارهم بل وتكبر عليهم حتى في الإعلام الخاص الذي يشن حملة ممجوجة على التيار الذي اختاره المصريون.

على أن تشتمل تهمة الخيانة العظمى على مخططي البرامج الذين جعلوها حتى في برامج الطبيخ تخدم مدينة القاهرة وحدها وكأن مصر في ريفها ومصانعها قد خلت من قضاياها، وأصبح الجميع يدرك أن مصر تخضع لاحتلال القاهرة وعلى شعب مصر أن يسعى للتحرر من هذا الاحتلال.

لست رجل قانون لكنني مؤرخ في القضايا المعاصرة ولا أملك وأنا في خريف العمر إلا أن أنتظر هبة شعب مصر أو أفتح باب التاريخ ليكون حكما وإن كان ذلك يريح الانتهازيين المضللين فعليهم ولو لمرة واحدة أن يدركوا حكم التاريخ.

المصدر: العصر