بمناسبة العام الهجرى الجديد يشرفنى ان اهديكم هذا الفصل من اجتهادى الذى يصدر عن دار المعارف المصرية بمعرض الكتاب باسم محمد الصابر صلى الله عليه وسلم : فخرى فايد


الخروج

ـ 1 ـ
السنـة : الأولى من الهجرة " الثالثة عشرة من النبوة .
الشهـر: غرة ربيع الأول .
اليـوم : الاثنين .
الـوقت: الفجــر .
.. كانت مكة تغط فى نوم عميق، جثم على صدور أهلها، فلقد هد أثرياءها إفراطهم فى اللهو، وهد فقراءها اشتدادهم فى الكدح ؛ وفى نومهم لا أحد من هـؤلاء أو هؤلاء يدرى من أمر نفسه شيئا : أهى موتة صغرى يصحـو بعدها ليمارس حياته من جديد، أم هى موتة كبرى لا فواق منها ولا عودة إلى الدنيا ! .
.. وقف الحبيب محمد  يلقى نظرة أخيرة على مكة قبل أن يرحل عنها، وقد فاض به الحـزن لفراقها : كانت الدور والخيام تتلاصق متحلقة حول الكعبة، فبدت كأنها تتقرب إلى بيت الله الحرام وتحتمى به ؛ ثم علا البصر إلى حيث كانت الجبـال ترتفع ـ بأمـر ربها ـ فى صرامة تناطح السحاب، وتحيط بالكعبة والدور، فتضرب حولهما سورا لا يسهل اجتيازه !! .
.. ولعل الحبيب  قد أطال النظر والتأمل فى جبل بذاته، حيث غار حراء مهبط الوحى، وتذكـر مجيء جبريل  فى ذاك اليوم المشهود من أيام شهر رمضان، بأول أمر من ربه :
ـ اقرأ .
ولعل البصر قد توقف به  طويلا متأملا فى شعب محدد حيث حصر وأهله ثلاث سنوات، منعوا فيها من مخالطة أهـل مكـة، وحظر عليهم المشركون أن يتعاملوا معهم فلا يبيعونهم ولا يبتاعون منهـم ؛ ورغـم مرارة الذكريات، غلبته مشاعر حب الوطن، وتغلبت مشاعر الفـراق على كل مـا عداها من مشاعر الألم والمرارة، وفاض الوجد بالحبيب محمد  فقـال :
ـ ما أطيبك من بلد وأحبك إلىٌ،ولولا أن قومى أخرجونى منك ما سكنت غيرك.
.. وتحرك رسول الله  ماشيا، وتلاحقت حركة قدميه فى خفة فوق الرمال الممتدة بلا نهاية، ومع كل خطوة كانت مكة تبتعد وتتراجع، بينما هى لاصقة بالقلب لا تغادره، رغم كل ما لاقاه من أهلها من سوء معشر وجيرة، وظلم له ولأهله ولأصحابـه، ورغم ما قالته فيه قريش من اتهامات بالباطل، فلقد تجاوز بغيهم كافة الأعراف، وكل حدود المعقول، ثم ها هم أولاء قد اجتمعوا خارج باب داره، يلبون ما وسوس لهم به إبليس، يترقبون خروجه، وقد أجمعوا على قتله بضربة واحدة من سيوفهـم، حتى يتفرق دمه بين القبائل !! .
.. ورغم هذا جميعه قال  وهو صابر على أذاهم، أملا فى أن تدركهم رحمة الله يوما :
ـ اللهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون، فلعلك يا رب هاديهم، ومخرج يا رب من أصلابهم ذرية تؤمن بك .
.. ولما اشتد إيذاء قريش للمسلمين، جاءوا إليه قائلين :
ـ يا رسول الله ادع على المشركين .
فقال  :
ـ لم أبعث لعانا، وإنما بعثت رحمة .
.. وحتى لما تمادوا فى غيهم يعمهون، متحدين وساخرين من توعد رب العالمين لهم بالعذاب، إذ قالوا :
ـ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنْ السَّمَاءِ أَوْ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) سورة الأنفال
.. لم يدع رسول الله  عليهم بالهلاك، أو بالعذاب، كما دعوا على أنفسهم، أو كما فعلت الكثرة ممن سبقوه من الرسل والأنبياء، وكيف له أن يقسو وقد وصفه ربه فى سورة التوبة، بأنه بالمؤمنين رءوف رحيم، وهو يرجو من الله أن يكونوا مع الأيام مؤمنين :
ـ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)
.. ثم كيف يكون لهم العذاب وفيهم الحبيب محمد ، يتعبد ويقنت لربه طوال الليل والنهار: ألم يدركوا أنه برجل واحد صالح، يحفظ الله أمة بأسرها : فما بالكم وقد أتى الحبيب  وعد ربه، فى سورة الأنفال :
ـ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)
.. توقف الحبيب  واستدار يلقى نظرة أخيرة على أحب بلاد الله إليه، وقبل أن يغادر مكانه، رفع يديه إلى السماء ضارعا متضرعا وقال :
ـ الحمد لله الذى خلقنى ولم أك شيئا، اللهم أعنى على هول الدنيا، وبوائق الدهر، ومصائب الليالى والأيام، اللهم احجبنى فى سفرى، واخلفنى فى أهلى، وبارك لى فيما رزقتنى ؛ عليك فدلنى، وعلى صالح خلقى فقومنى، وإليك فحببنى، وإلى الناس فلا تكلنى؛أنت رب المستضعفين وربى، أعوذ بوجهـك الكريم الذى أشرقت له السماوات والأرض، وكشفت به الظلمات، وصلح عليه أمر الأولين والآخرين : أن يحل بى غضبك، أو ينزل على سخطك، أعوذ بك من زوال نعمتك، وفجأة نقمتك، ولا حول ولا قوة إلا بك .
.. وبعد أن انتهى رسول الله ، حث الخطى مخلفا وراءه مكة بأسرع ما يستطيع، ليلحق بموعده مع أبى بكر الصديق أمام غار ثور، وقبل أن يعرف المتآمرون بخروجه من بينهم، وقد تغشاهم الله فهم لا يبصرون، فلم يروه وهو يغادر داره، وضرب على سمعهم فلم يسمعوه وهو يتلو عليهم سورة : يس؛ بينما أخذت تتردد فى أذنيه كلمات ورقة بن نوفل وهما يطوفان معا بالكعبة عند بدء الوحى :
ـ والذى نفس ورقة بيده، إنك لنبى هذه الأمـة، ولقد جاءك الناموس الأكبر الذى جاء موسى : وليكذبنك، وليؤذينك، وليقاتلنك، وليخرجنك ...
ـ 2 ـ
.. على درب الخروج سـارت جموع الأنبياء : يتقدمهم أبو البشر آدم  هابطا من الجنة إلى الأرض .
.. فلقد استمع آدم  إلى إبليس فغوى، وأكل، وأكلت معه حواء من الشجرة المحرمة.
.. وضحك إبليس طويلا .. طويلا فى نشوة المنتصرين، ثم قال هازئا من آدم :
ـ ألا ما أضعفك يا غريمى .
.. ثم قهقه، وقهقه، حين تكشفت سوءتا آدم وحواء، فطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة ليواريا ما انكشف، وكان الله قد ستره، لكنهما كشفاه بعصيانهما .
.. لقد انهزم أبو البشر فى أول مواجهة .
وانتصر إبليس .
انهار آدم ساجدا لله تائبا مستغفرا، طالبا رحمة الرحمن الرحيم، وقد ملئت نفسه بالندم والحسرة على ما فرط فى حق الله .
وعفا العفو الرءوف الرحيم .
ولكن كان لا بد من جزاء :
وخرج آدم، وخرجت حواء من الجنة ليعمرا الأرض .
.. ولأن الإنسان من خلقه النسيان .
.. ورغم التحذير الإلهى للبشر :
ـ يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (27 ) سورة الأعراف
.. بدأ النسيان يعمل عمله فى أبنـاء آدم، فبعد وفاة الأب، ظلوا لسنوات يتذكرون تحذيره لهم من الشياطـين، وما نصحهم به من ضرورة تقـوى الله، ثم بدأت النصيحة تخفت، وتتراجع كلما مـرت الأيام، وانتشـرت بينهم العـداوة والبغضاء، وسيطر عليهم إبليس ؛ وحاول المخلصون منهم الإصلاح، لكن الفساد استشرى، وعمت الرذيلة، وزين لهم إبليس أن يصنعوا صورا وتماثيل، لخمسة ماتوا من الصالحين، هم : ودا، وسواعا، ويغوث، ويعوق ونسرا، ثم وسوس لهم أن يتقربـوا إلى تلك التماثيل، ويشركوها فى عبادتهم لتقربهم إلى الله ؛ ومع الأيام نسوا الله، فصاروا من عبدة الأصنام، فلقد استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله ؛ وسيطر الشر على الحياة، وتحول البشر إلى حيوانات تحكمها الغرائز، بعد أن غيب العقل، وهذا حال يصير إليه الناس حين يغفلون عن ذكر الله : ـ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) سورة طه
ويحذر الله رب العالمين الناس من الغرق فى أوساخ الكفر أو الشرك، ويبين لهم الحال التى سينتهى إليها المشركون والكافرون، فى سورة الجن، قائلا :
ـ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)
.. ومن رحمة الله بالناس أن يبعث إليهم النبيين مذكرين ومنـذرين ..
ـ 3 ـ
.. أوحى الله تعالى إلى نوح  فقال لأهله، من سورة الأعراف :
ـ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59)
.. وحمل نوح  رسالة ربه، وراح يدعو أهله ليلا ونهارا، فى السر وفى العلن:
ـ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِي (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَـلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَـاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (4) سورة نوح
.. لكن قومه ظلوا فى غيهم يعمهون، وبقوا على طاعتهم لإبليس، وسخـروا من نوح، بل تمادوا فيما هم عليه من فساد قائلين :
ـ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (60) سورة الأعراف
ويرد عليهم نوح مؤكدا :
ـ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) سورة الأعراف
.. ومع كون نوح  كان معجزة تجسدت بينهم فى طول عمره، فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما، وشهد ذهاب أجيال وإقبال أجيال، مؤكدا بمعجزة وجوده واصراره على ما يدعوهم إليه أنه على حق، وأن ما دون ذلك من الظالمين، فإنما هم على الباطل يعيشون ويموتون، وإن كان البشر هالكون، طال بهم العمر، أم قصر !.
.. ورغم هذه المعجزة الربانية المتجسدة فى طول عمره، بقيت الأجيال تتوارث الفساد، وشكا نوح حال قومه لربه، وقد امتلأ مرارة ويأسا من استمرارهم على توارث الفساد والضلال، قَالَ نُوحٌ:
ـ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلا تَزِدْ الظَّالِمِينَ إِلا ضَلالا (24) سورة نوح
.. ولما أصروا على التمادى فى ضلالهم لم يملك نوح عليه السلام إلا أن يدعو ربه أن يهلكهم، ليرحم الحياة من شرورهم، وَقَالَ نُوحٌ :
ـ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ ولا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) سورة نوح
.. وجاء أمر الله لنوح أن اصنع الفلك، واحمل عليها من آمن،ومن كل المخلوقات زوجين، وأن انتظر ساعة الخروج للخلاص من القوم الضالين ! .
.. أطاع نوح ما أمر به، وبدأ يصنع السفينة، وكلما مر به نفر من قومه، يتغامزون ويسخرون من صـانع السفينة فى أرض بعيدة عن الأنهـار والبحار، ويسألـونه :
ـ ماذا ستفعل بسفينتك هذه يا نوح ؟! .
ويقول لهم نوح  :
ـ أنتظر أمر ربى لأخرج بها هاجرا مفاسدكم، فهل بينكم رجل رشيد يفر معى إلى الله؟.
ويجيبه السفهاء :
ـ ليتك تفعل هذا وحدك يا نوح، فتريح بخروجك من بيننـا، وتستريح !! .
قال نوح  :
ـ .. إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39) سورة هود
وجاء أمر الله ..
وفار التنور ..
وفتحت أبواب السماء بماء منهمر ..
وفجرت الأرض عيونا ..
فالتقى الماء على أمر قد قدر .
وبدأت الأرض تغرق وتختفى بكل ما فوقها من دواب وبيوت وزرع، فلقد ابتلع الطوفان كل شئ، بينما أخذت السفينة تعلو وتستقيم على سطح الماء، وأسرع الكافرون
يهرعون إلى قمم الجبال، بينما ركب نـوح السفينة مع من آمن منهم، وما آمن معه إلا قليـل .
ونوح  يرى ما يحدث لهم، عارف بالهلاك الذى هم إليه سائرون، فلقد أعلم به من قبل رب العالمين، حين أمر ببناء السفينة بسورة هود :
ـ وَاصْنَعْ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37)
لكنهم كانـوا لا يسمعون تحذيره، فلقـد ضـرب إبليس على آذانهم فهم لا يدركون، وطمس على عقولهم فهم لا يفقهون، وحين نادى نوح ابنه :
ـ يا بنى اركب معنا ولا تكن مع الكافرين .
قال الابن الكافر :
ـ سآوي إلى جبل يعصمنى من الماء .
ويصرخ نوح  فى ابنه قائلا :
ـ لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم .
.. وحال بينهما الموج فكان من المغرقين .
.. وحمل الماء السفينة وراح يدفعها مبتعدا، إلى حيث شاء الله، ليمحو الله القرية وأهلها، وليطهر الأرض من الأوساخ والأدران بالماء تطهيرا : مما خطيآتهم أغرقوا فأدخلوا نارا فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا .
وقضى الأمر ..
وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعى وغيض المــاء .
.. ونشأ جيل ما بعد الخروج .
ـ 4 ـ
.. سعدت الحياة بأناس من الصالحين المهتدين، ثم عاد الفساد يتفشى، وعمت الرذائل، وأصبحت حياة البشر مثلها مثل حياة الحيوانات بل هى أشد سوءا، فالحيوان لا يعمل الفكر، ولا يرسم الخطط، ولا يطـور أساليب الشر، فى حين يستطيع ذلك الآدميون بما حباهم الله به من نعمة العقل !! .
ووسط ركام الفسـاد الذى عـم بين عبدة الشمـس والقمر والنجوم والأصنام، راح إبراهيم يتطلع إلى السماء، باحثا عن رب أقوى، وأكثر إقناعا لعقله الذى رفض الأرباب التى يعبدها أهله، من تماثيل صنعوها بأيديهم، وكواكب فى السماء العلا ، وقال رب العالمين موضحا سورة الأنعام :
ـ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ (75)
.. فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال :
ـ هذا ربى .
.. فلما أفل قال :
ـ لا أحب الآفلين .
فلما رأى القمر بازغا قال :
ـ هذا ربى .
فلما أفل قال :
ـ لئن لم يهدنى ربى لأكونن من القوم الضالين .
فلما رأى الشمس بازغة قال :
ـ هذا ربى هذا أكبر .
فلما أفلت قال :
ـ يا قوم إنى برئ مما تشركون، إنى وجهت وجهى للذى فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين .
واهتدى إبراهيم عليه السلام إلى الذات العليا، وقال :
ـ آمنت بالله رب العالمين، وإنى أول المسلمين .
ثم قال لأبيه يدعوه لأن يرقى إلى ما صار عليه الابن :
ـ يا أبت لم )إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً. يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً. يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً. يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً) ( مريم:43-44- 45 )
قال الأب عاجبا :
ـ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً) (مريم:46) قال إبراهيم  :
ـ قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً) (مريم:47) .. ثم التفت إلى قومه يسألهم :
ـ ما هذه التماثيل التى أنتم لها عاكفون ؟ .
قالوا :
ـ وجدنا آباءنا لها عابدين .
قال إبراهيم  :
ـ هل يسمعونكم إذ تدعون، أو ينفعونكم أو يضرون ؟!!.
قالوا :
ـ وجدنا آباءنا كذلك يفعلون .
قال إبراهيم  :
ـ قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الأقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِي (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِي (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لأبِي إِنَّهُ كَانَ مِنْ الضَّالِّينَ (86) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) سورة الشعراء
.. وأصر إبراهيم على أن يتبع قوله بالعمل، فلما أقبل الصبح، وخرج قومه إلى احتفالهم بعيدهم، اتجه إلى أصنامهم فطـاح فيها ضربا وتدميرا، فجعلهم جـذاذا إلا كبيرا لهم، ثم علق الفأس التى فعل بها فعلته فى رقبة التمثال، ولما رأوا ما صارت إليه آلهتهم، سألوه :
ـ أنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم !!.
أشار إبراهيم  إلى التمثال الذى تدلت الفأس من رقبته، وقال :
ـ بل فعله كبيرهم هذا فسألوهم إن كانوا ينطقون .
.. وصدقه قومه، ثم نكسوا على رؤوسهم، وقد أدركوا أن إبراهيم هو الفاعل، وأن قولته تحمل السخرية بهم والاستخفاف بما يعبدون، وقالوا :
ـ لقد علمت ما هؤلاء ينطقون .
قال إبراهيم  :
ـ أفتعبدون مـن دون الله مالا ينفعكم وشيئا ولا يضركم، أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون .
وجادله النمرود ملك البلاد، فقال له :
ـ ماذا يستطيع ربك ؟ .
قـال إبراهيم :
ـ ربى الذى يحيى ويميت .
قـال النمرود :
ـ أنا أحيى وأميت .
.. ثم أمر بسجينين حكم عليهما بالإعدام، فقتل أحدهما، وعفا عن الآخر .
قـال إبراهيم  :
ـ الله يأتى بالشمس من المشرق فآت بها من المغرب .
.. فبهت الذى كفر !! .
وغضب الملك أشد الغضب لهزيمته، وتنادى أنصاره، قالـوا :
ـ ابنوا له بنيانا فألقوه فى الجحيم .
.. وتنافس القوم فى جمع الخشب والقش، وتأججت النار تفح كالأفاعى، وتصاعد لهبها يلفح الوجوه فيكويهـا، وألقوا بإبراهيم فى النار، وجاءها أمر الله :
ـ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَـلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمْ الأخْسَرِينَ (70) سورة الأنبياء
.. وخرج إبراهيم من النار سالما بأمر الله، ورغم المعجزة الخارقة التى رآها الكفار رأى العين، ورغم تجلى قدرة رب إبراهيم سبحـانه وتعالى علوا كبيرا، إلا أن إبليس حاورهم ووسوس لهم فأعماهم عن الحقيقة الملموسة التى تجلت أمام أبصارهم، وعن الحق الذى بين أيديهم .
.. خرج إبراهيم  من قريته بالعراق، مهاجرا إلى أرض فلسطين، وليس معه إلا من آمن وهما : زوجته سارة، وابن أخيه لوط الذى قال فى إيمان وهو خارج :
ـ إنى مهاجر إلى ربى إنه هو العزيز الحكيم .
.. ثم استأذن لوط من عمه فى أن يتجه بالدعوة إلى أرض عمورية وسدوم بالقرب من البحر الميت، وهى بلاد صحراوية أهلها غلاظ منحرفون، فأذن له .
.. تزوج لوط  من بينهم وانتسب إليهم، وظـل سنين وسنين يدعوهم للكف عن الشـر : فلا يقطعون الطريق لينهبوا القوافل، ويروعوا المسافرين جماعات وأفرادا، ولا يغشون فى الكيل والميزان، ولا يأتون الرجال من دون النساء، فلم يستمع إليه ولم يؤمن معه إلا قليل، وظلت الكثرة الكاثرة تفـاخر بفجـرها وقوتها وجبروتها، ويتناسون ما يؤكده لهم لوط  من أن الله هو الجبار ذو القوة، وأن الله غاضب من أفعالهم وظلمهم، وأنه يخاف عليهم من سخط الله .
.. قنط لوط  من صلاح حال قومه، فدعا عليهم بالهلاك، ثم خرج مهاجرا بمن آمن من قومه، بعد أن أتاه أمر ربه عن طريق الملائكة :
ـ قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنْ اللَّيْل وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمْ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) سورة هود
.. ثم حل بهم غضب الله، فأرسل ملائكته الغلاظ الشـداد، فقلبوا الأرض التى يعيشون عليها، وجعلوا عاليها سافلها، ودمرها الله تدميرا، واستوت الأرض، فكأنها لم تعمر من قبل، ولم تكن عليها حياة ولا أقوام، وسبحان القادر العظيم .
.. بينما خرج إبراهيم  إلى مصر، ثم خرج بأمر من الله ومعه زوجه هاجر وابنه إسماعيل من مصر إلى وادى مكة حيث قواعد بيت الله الحرام، فأسكنهما بواد غير ذى زرع بالقرب من الكعبة المشرفة، و دعا ربه قائلا :
ـ ربنا إنى أسكنت من ذريتى بـواد غير ذى زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون .
.. وحتى يومنا هذا، ما تزال أفئدة المسلمين تهفو إلى بيت الله الحرام، فيجعلها الشوق تترك المال والدار والأهل والولد، وتخرج ساعية لزيارته، فلقد قال الله تعالى :
ـ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) سورة الحج
.. ولما شب إسماعيل، أختبر إبراهيم  فى مدى طاعته لله تعالى، ومدى صدق عقيدته، فأرى الرؤيا التى رأى، وأمر أن يذبح ابنه الحبيب إسماعيل، فأطاع أمر الله، وأطاع الابن أباه، ففداه الرحمن الرحيم بذبح عظيم، ثم بدأ يرفعان القواعد بأمـر الله،
وهما يرجوان رضاء الله، قائلين:
ـ ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم .
.. ثم اتجه إبراهيم  إلى الله داعيا، يقول :
ـ ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم .
.. ثم قال، راجيا، وأملا فى البشارة برسول الله :
ـ ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم .
ـ 5 ـ
خرج موسى  أول ما خرج، من بيت أمه وهو لم يزل وليدا، فلقد كان فرعون يقتل كل ذكر يولد خوفا من تحقق نبوءة جاءه بها كهانه تقول : إنه سوف يولد طفل من بنى إسرائيل سيقتله، ويبيد ملكه، وكان يفعل فعلته تلك عاما ثم يترك من يولدون فى العام التالى أحياء حتى لا يبيد بنى إسرائيل، ولقد ولد موسى فى عام القتل، كما جاء فى سورة القصص :
وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتْ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُـرَّةُ عَيْنٍ لِى وَلَكَ لا تَقْتُلُـوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَـدًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (9)
.. ثم يخرج موسى ثانية بعد أن صار رجلا، فارا من قومه بعد أن قتل رجلا من عدوه، إلى أن أتاه أمر ربه أن : اذهب إلى فرعون إنه طغى .
.. ويظهر موسى خوفه من العـودة إلى مصر حتى لا يقتل عقابا لقتله من قتل من عدوه، ويضرع إلى ربه أن يرسل معه أخاه هارون، ليشدد به أزره .
.. ويستجيب الرحمن الرحيم، ثم يأمره سورة الشعراء:
ـ فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17)
قال فرعون لموسى معاتبا، ومذكرا يمن عليه بما قدم له فى سالف الأيام، لعله يرجع عن طلبه:
ـ ألم نربك فينا وليدا و لبثت فينا من عمرك سنين، وفعلت فعلتك التى فعلت وأنت من الكافرين .
قال موسى  :
ـ فعلتهـا إذا وأنا من الضالين، ففررت منكم لما خفتكم فوهب لى ربى حكما وجعلنى من المرسلين، وتلك نعمة تمنها على أن عبدت بنى إسرائيل .
قال فرعون :
ـ وما رب العالمين .
قال موسى :
ـ رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين .
قال فرعون لمن حوله ساخرا :
ـ ألا تسمعون ؟!! .
استطرد موسى قائلا :
ـ رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون .
قال فرعون غاضبا ومتوعدا :
ـ لئن اتخذت إلها غيرى لأجعلنك من المسجونين .
قال موسى :
ـ أولو جئتك بشْىء مبين .
.. وتتوالى المعجزات الحسية الواضحة، ويخرج موسى يده المسودة من جيبه فإذا هى بيضـاء بأمـر الله، ثم يتفوق على السحرة الذين حشدهم فرعون، بأن يلقى عصاه فلقفت إفكهم بأمر الله، ويبطل سحرهم، ولكن فرعون لا يستجيب، ويصر على حصر الذين آمنوا، فلقد تمكن إبليس منه حتى جعله يظن نفسه إلها، وساعده شعبه باستكانته وحبه لمليكه على أن يتمادى فى غيه، ويزداد طغيانا وكفرا .
إلى أن جاء أمر الله لموسى بالخروج :
ـ واسر بعبادى ليلا، إنكم متبعون .
.. ويخرج موسى بمن آمن معه من بنى إسرائيل، يسرع بهم مبتعدا عن الشرك بالله، فارين مـن الهلاك الذى يلاحقهم به فرعون وجنوده ؛ يقطعون الفيافى والقفار متحملين مشاق الطريق، وقلة الزاد، فكل أمر يهون فى سبيل رضا الله، ثم واجههم البحر بأمواجه المخيفة تزمجر وتعوى، وبامتداد مياهه بلا انتهاء على مدى ما يدرك البصر، فانتاب اليأس نفوس من لم يستقر الإيمان فى قلوبهم استقرارا يقينيا ثابتا، بينما لم تهتز ثقة موسى  فى ربه، وفى أنه سبحانه وتعالى مغيثه ومنقذه من هذا الكرب العظيم، ومن هذا الخطر الذى أحاط بهم، لأن فيه هلاكه، وهلاك قومه، وانتصار الكفر والشرك، فلو لحق بهم فرعون لقتلهم تقتيلا، ولأفناهم جميعا، ولو خاضوا البحر لغرقوا، ولابتلعتهم أمواجه ؛ ولكن ثقة موسى لم تهتز فى تحقق وعد الله، وقال لأتباعه :
ـ إن الله معى سيهدينى .
.. وحين اشتد اقتراب فرعون وجيشه من المهاجرين، حتى كاد أن يطبق عليهم، جاء غوث الله، وأمر الله موسى أن:اضرب بعصاك البحر.
.. ففعل موسى فانشق البحر فلقتين، فسار هو والذين آمنوا معه فى رعاية الله وحفظه، حتى وصلـوا إلى الشاطئ الآخر، بينما كان فرعون قد أعماه الغضب، وأصابه الجنون، لأن موسى ينتصر عليه، ويفلت بمن آمنوا من عقابه، فراح يشتد فى سعيه، ويلهث للحاق بهم، فأمر الله البحر فانطبق عليهم، وغرق فرعون وجنوده فى أليم .
.. وخرج موسى مهاجرا إلى أرض الميعاد .
ـ 6 ـ
.. عاد اليهود إلى المعصية، فكانت معجزة الله الأزلية إليهم بأن جعل مريم ابنـة عمران، القانتة الصالحة، التى تنتمى لأشرفهم نسبا، تلد السيد المسيح من غير أن يمسسها بشر، فكما نفخ الله من روحه فى آدم فحيا، نفخ من روحه فى مريم فولدت عيسى  بلا أب :
وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَت فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنْ الْقَانِتِينَ (12) سورة التحريمْ
.. إِذْ قَالَتْ الْمَلائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا وَمِنْ الصَّالِحِينَ (46) سورة آل عمران .
قالت مريم من سورة آل عمران :
ـ قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ .
قالت لها ملائكة الرحمن :
ـ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) سورة آل عمران
فحملته مريم، فانتبذت به مكانا قصيا، فجـاءها المخاض إلى جذع النخلة، قالت :
ـ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) سورة مريم .
فناداها الوليد من تحتها، قائلا :
ـ أَلا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنْ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَانِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا (26) سورة مريم
فأتت مريم قومها تحمل عيسى، قالوا :
ـ يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) سورة مريم
فأشارت إلى طفلها أن اسألوه، قالوا متعجبين :
ـ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) سورة مريم
وأجابهم الوليد قائلا :
ـ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِي الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ ‎وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا(32)وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْم وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) َسورة مريم
.. فتن اليهود بالمعجزة الربانية، وأصبحوا ولا حديث لهم إلا معجزة الله فى بنت عمران، وهو ما أوغر صدور كهانهم، فخاضوا فى سيرة مريم، مما جعلها تخرج بابنها، وهو بعد صبى إلى مصر، ثم عادت بعد أن كبر عيسى ، ليدعو قومه إلى عبادة الله الواحد، وأعطاه الله من فضله الكثير، واختصه بمعجزات مـادية، فكان يشفى الأبرص بأمـر الله، ويجعل الأعمى بصيرا بأمر الله، والتف حـوله الحواريون مؤمنين مصدقين، داعين الناس إلى الدخول فى دين الله، ولكن الأحبار بعد أن قل نفوذهم بين الناس، وضاعت مكانتهم، وسوس الشيطان فى نفوسهـم، ونمى فيهم الكراهية لعيسى ، فتآمروا عليه، وكادوا له عند الملك فأحل دمه، وأمر بقتله، ولكن شبه لمن ذهبوا لتنفيذ حكم الملك، وصلبوا الواشى وقتلوه !! .
وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) سورة النساء
.. ورفع عيسى ابن مريم  بمعجزة ربانية، فخرج مغادرا الأرض بمظالمها، إلى السماء برحمتها، بعد أن بشر بمجيء الحبيب محمد ،إذ قال عيسى ابن مريم:
ـ يا بنى إسرائيل إنى رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدى من التوراة ومبشرا برسول يأتى من بعدى اسمه أحمد .
ـ 7 ـ
.. وتمر السنون .
.. ويعود النسيان والشيطان من ورائه،ليفسدا على البشرية حياتها، فتشرك بالله ..
وقال الله تعالى فى ذلك، بسورة التوبة :
وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32)
.. وها قد جاء أحمد الخاتم  ، النبى الأمى : دعوة إبراهيم، ونبوءة موسى، وبشارة عيسى، عليهم السلام، ليدحض قول المشركين والكافرين، ويصلح دينهم، داعيا الإنس والجن إلى العودة إلى الله، وأن يشهدوا أنه : لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لم يكن له صاحبة، ولم يكن له ولد : قُـلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) سورة الإخلاص
.. وها هـو ذا قد خـرج من داره مهاجرا فى سبيل الله، تاركا وراء ظهره الوطن والأهل والصحبة، والظلم والظلمة، ساعيا إلى نصرة دين الله، متمما لخروج من سبقه من الرسل والأنبياء، حاملا وعد الله له بالعودة إلى مكة، من بعد الخروج :
ـ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (85) سورة القصص
: وإنك لتعلم يا حبيبى، أنه الحق من ربك ..
.. وأن الله على كل شئ قدير .