مدينة السرطان....قصة قصيرة

التسجيل : 27/08/2008

مدينة السرطان..

*عقارب الساعة تمشي ببطء شديد، والقلوب تخفق بسرعة مجنونة، والعيون شاخصة إلى باب غرفة العمليات، وأبوان عجوزان أرهقتهما متاعب الأيام، وعبثية الحياة التي لا ترحم، وبالقرب منهما أخ وأخت مع خطيبها، والجميع ينتظرون رحمة الله. ولكن الوقت طال كثيراً، وازدادت الأعصاب توتراً، وما من بارقة أمل تأتي من وراء هذا الباب المغلق. بدأت الأم تتنهّد، وبدأ الأب يتحسس علبة الدخان في جيبه، والبقية راحوا يملأون بهو المستشفى جيئةً وذهاباً، والعيون كلها تنظر صوب الباب. قالت أُم كمال: "لعنة الله على هذا الدخان وعلى من جلبه إلى بلادنا ليقتلنا بسمه، إنه سبب مصيبتنا وكل المصائب". فردَّ أبو كمال مدافعاً عن نفسه بشكل غير مباشر: "كأنكِ تريدين أن تردّي القدر بالامتناع عن التدخين، ها أنا أدخن منذ ثلاثين سنة ولم يصبني أذَى". أجابت: "إذا كنت لم تشعر بأذى فنحن الذين نشعر به، روائح الدخان في بيتنا أغلقت صدورنا، وها نحن على ما ترى من مصائب.. ألم تعلم أن الدخان هو سبب كل المصائب، وخاصة مرض القلب؟". رَدّ أبو كمال بعصبية: "لقد أصبح لسانك طويلاً جداً ويحتاج إلى...؟". أجابت: "إلى ماذا؟ قُل لي". هنا، تدخلت خطيبة كمال وتَمنَّت عليهما أن ينهيا هذا الحوار، لأنه ليس في زمانه ولا في مكانه المناسب، فصمت الزوجان في نفس كل منهما الكثير من الغضب والألم. في هذا الجو المتوتر، فُتح باب غرفة الإنعاش وخرجت منه ممرضة بسرعة قصوى، ثم عادت بأسطوانة أُكسجين كبيرة. أسرَع الجميع نحوها ليستفسروا عمّا يجري، ولكنها سرعان ما دخلت وأغلقت الباب وراءها، ما زاد الموقف قلقاً وتوتراً. كان الخوف يطل من العيون، ومن قسمات الوجوه، ومن الحركات غير العادية لدى الجميع. وبدأ الإرهاق يفعل فعله في الأبوين العجوزين، على الرغم من محاولتهما إظهار الجَلَد والتحمُّل. وبعد نحو أربع ساعات من هذا الجو المشحون بالخوف والاضطراب، فُتح الباب على مصراعيه، وخرج كمال على نقّالة خاصة مُغطَّى بشراشف بيضاء، وحوله مجموعة من الممرضات، وعدد من الأطباء وفي مقدِّمتهم الطبيب الجراح. كانت خطواته سريعة وواثقة، وكانت عيناه تشعّان بالأمل وعلى ثغره ابتسامة تبعث بالطمأنينة. وما إن وصل الطبيب إلى مقربة منّا حتى بادَرنا بالتحية، وهنّأنا بسلامة كمال. ثم قال لنا: "بعد أن يصحو من المخدّر سأزوره، وسأجيبكم عن كل تساؤلاتكم، ولكن أطمئنكم أن أسوأ مراحل الخطر قد تجاوزناها بعون الله ورحمته".
بعد دخول كمال الغرفة المخصَّصة له بنحو نصف ساعة، ولدى حضور الطبيب المخدر، أفاق من غيبوبته فوجد الجميع يلتفون حوله بحميمية غامرة، فجال على الجميع بنظرات ملؤها الحُب، ثم طلب الماء بصوت متقطع، فاعتذرنا له بعد أن نصحنا الطبيب بالتريّث في ذلك، لأنّ أكياس المصل ستبعد عنه هذا العطش الناتج عن العملية. ابتسم كمال ابتسامة صفراء، ثم أغمض عينيه قليلاً، ثم عاد وفتحهما وابتسم قائلاً: "شكراً لكم جميعاً، لقد أتعبتُكم كثيراً". فما كان مِن أم كمال إلّا أطلقت زغاريد عالية جَمعت كلّ من حولها.
وبعد مرور أسبوعين، خرج كمال من المستشفى بحضور حشد غفير من الأهل والأصدقاء، وحمل معه الكثير من علب الدواء والكثير من الإرشادات والنصائح، وعلى رأسها الامتناع النهائي عن التدخين، والابتعاد عن أجواء الدخان بكل أنواعه. هكذا، بدأت مسيرة حياة جديدة لكمال، وأصبح عليه أن يحافظ على صحته كما يحافظ البخيل على مجوهراته الثمينة. تّذكَّر أيام شبابه وكيف كان يبدِّد فيها صحته بالدخان و"النرجيلة"، وعقد العزم على أن ينظِّف جسده من كل أنواع الدخان، وأن يتوب توبة نصوحاً عن التدخين. لكن الدخان كان يحاصره من كل الجهات. فالمدينة التي يسكن فيها امرأة شمطاء تتعاطى كل أنواع التدخين. السيارات تنفث الدخان، والمعامل تنفث الدخان. لقد عَمَّ الدخان المدينة وغطاها بسحب مرئية وأُخرى غير مرئية، وغَدَا المدخنون يتكاثرون في هذا الجو الموبوء، كما تتكاثر الأوبئة في المستنقعات والأماكن الملوثة، وغدا الفضاء ممتلئاً بثاني أوكسيد الكربون بدلاً من الأكسجين.
قال كمال في نفسه: "أريد مدينة نظيفة بلا دخان، أريد أن أعيش، وأن يعيش معي كل مرضى القلب والمصابين بضيق التنفس أو ارتفاع ضغط الدم، أريد مدينة لا يوجد فيها "سرطان" ولا أمراض قلبية، ولا أجواء ملوثة". ركب كمال سيارته متوجهاً صوب البحر، وراح يتجول على شاطئة بحثاً عن مكان نظيف يَركن إليه. أحسَّ براحة غريبة ونسمة طيِّبة رقص لها قلبه طرباً، وكأنه لم يحس بذلك من قبل، وراح يسرح بخياله: "أليس ظُلماً أني كنت أشارك ملايين المدخنين في إفساد هذا الجو، الذي خلقه الله على هذه الدِّقة من النقاء ليُسعد العباد منهم، بِنِعَم ربّ العباد سبحانه، الذي خَلق الماء والهواء وكل ما على الأرض وتحت السماء والإنسان؟". ثم رَفع يديه إلى السماء قائلاً: "اللّهم اغفر لي وارحمني وأنتَ أرحم الراحمين".

التسجيل : 18/07/2008

أحسنتي الأختيار أختي الاستاذة

لهذه القصه الرائعه والمفيدة ... بارك الله بكِ

وبإنتظار جديدك دائماً ... خما الزوج يدخن ... ههههه

تقبلي مروري أختي العزيزه

في حفظ الله

التسجيل : 22/08/2008

جميل اختى الاستاذه بارك الله فيكى

التسجيل : 27/06/2008

بسم الله الرحمن الرحيم
أذكر الله

الهواء النظيف النقى الخالى من التدخين والتلوث

بات حلم جميل فقط

المرض والتلوث والأجواء المختنقة باتت هى واقعنا

القصة جميلة والأمل لا يزال موجود

أشكركِ أختى الأستاذة

التسجيل : 27/08/2008

وعليكم السلام

اشكركم اخواني واختي الغالية عطر المحبة على مروركم الرائع...............زاد صفحتي تألق وزادني سرور....واضافة لي شحنة للهمم والنشاط

ممنونة جدا لمروكم لموضوعي

مدينة السرطان....قصة قصيرة

مدينة السرطان....قصة قصيرة

مواضيع مماثلة

مواضيع مماثلة

مواضيع تُهمك

تابعنا وتواصل معنا

خدمات شبكة عطر الإسلام

المواضيع المُتميزْة

		حفظ البيانات؟