((ما هي السعادة)).
يبحث كل إنسان بكل ما أوتي من قوة عن السعادة، فما هي
السعادة؟ وأين توجد؟
هل السعادة مال وفير وقناطير مقنطرة من الذهب والفضة، والخيل
المسومة والأنعام والحرث؟
هل السعادة منصب يرفع العبد على الناس، فيصبحون له خدماً
وخولاً؟
هل السعادة صحة الجسم، فلا يمرض، ولا يجوع، ولا يبأس؟
هل السعادة السلامة من الناس، والنجاة من غوائلهم ودواهيهم؟
لقد طلب السعادة أقوام من طرق منحرفة، فكانت هذه الطرق،
سبباً لدمارهم وهلاكهم، وللعنة الله التي وقعت عليهم.
طلبها فرعون وتلاميذه في الملك، ولكنه ملك بلا إيمان، وتسلطن
بلا طاعة، فتشدق في الجماهير:
أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي [الزخرف:51].
ونسي أن الذي ملكه هو الله، والذي أعطاه مصر هو الله، والذي جمع له الناس
هو الله، والذي أعطاه مصر هو الله، والذي جمع له الناس هو الله، والذي
أطعمه وسقاه هو الله، ومع ذلك يجحد هذا المبدأ ويقول:
ما علمتُ لكم من إله غيري [القصص:38].
فكان جزاء هذا العتو والتكبر والتمرد على الله؛ إنه لم يتحصل على السعادة
التي طلبها، بل كان نصيبه الشقاء والهلاك واللعنة بعينها
فأخذه الله نكال الآخرة والأولى [النازعات:25]. ويقول الله عنه وعن مثله:
النار يُعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب [غافر:46].
ويمنح الله قارون كنوزاً كالتلال ما جمعها بجهده، ولا
بذكائه، ولا بعرقه، ولا بعبقريته، وظن أنه هو السعيد وحده، وكفر نعمة الله،
وقد حذره ربه، وأنذره مولاه مغبة تصرفاته الوقحة، فأبى وأصر على تجريد
المال من الشكر، والسعي في الأرض فساداً، فكان الجزاء المر
فخسفنا به وبداره الأرض [القصص:81].
وطلب السعادة الوليد بن المغيرة، فآتاه الله عشرة من
الأبناء، كان يحضر بهم المحافل، خمسة عن يمينه، وخمسة عن يساره، ونسي أن
الله خلفه فرداً بلا ولد
ذرني ومن خلقت وحيداً وجعلت له مالاً ممدوداً وبنين شهوداً ومهدت له تمهيداً ثم يطمع أن أزيد كلا [المدثر:11-16].
فماذا فعل، كيف تصرف؟ أخذ عطاء الله من الأبناء، فجعلهم
جنوداً يحاربون الله، إلا من رحم ربك، فقال الله فيه:
سأصليه سقر وما أدراك ما سقر لا تبقي ولا تذر لواحة للبشر عليها تسعة عشر [المدثر:26-30].
وهذا يلتمس السعادة في الشهرة فيقضي ساعاته في توجيه الناس
إليه، ليصبح معبود الجماهير، وحديث الركبان، وشاغل الدنيا، فيقتلعه ربك من
جذوره، ويمحق سعيه
فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض [الرعد:17].
وذاك يظن أن السعادة في الفن، الفن المتهتك الخليع الماجن،
فيدغدغ الغرائز، ويلعب بالمشاعر، ويفتن القلوب، ويسكب الغرام في النفوس،
فيحمّله الله ذنوب من أغواهم، دون أن ينقص من ذنوبهم شيئاً، ويحجب الله
السعادة عن كل من لم يعترف بألوهيته، ويدين بربوبيته، فيقول:
ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشةً ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى [طه:124-126].
فأين السعادة؟ أين توجد لمن يبحث عنها؟ أين مكانها؟ من الذي
أتى بالسعادة وأدخلها القلوب؟ إنه محمد عليه الصلاة والسلام.
السعادة الإيمان والعمل الصالح، وجدها يونس بن متى، وهو في
ظلمات ثلاث: في بطن الحوت، في ظلمة اليم، في ظلمة الليل، حين انقطعت به
الحبال، إلا حبل الله، وتمزقت كل الأسباب، إلا سبب الله، فهتف من بطن
الحوت، بلسان ضارع حزين:
لا إله إلا أنت سبحانك إني كنتُ من الظالمين [الأنبياء:87].
فوجد السعادة.
ووجدها موسى عليه السلام، وهو بين ركام الأمواج في البحر،
وهو يستعذب العذاب في سبيل الواحد الأحد:
كلا إن معي ربي سيهدين [الشعراء:62].
ووجدها محمد عليه الصلاة والسلام، وهو يطوّق في الغار بسيوف
الكفر، ويرى الموت رأي العين، ثم يلتفت إلى أبي بكر ويقول مطمئناً:
لا تحزن إن الله معنا [التوبة:40].
سهدت أعينٌ ونامت عيـون في شئون تكون أو لا تكون
فاطرح الهـم مـا استطعت فحمـلانك الهمـوم جنـون
إن ربا كفاك ما كان بالأمس سيكفيـك فـي غدٍ ما يكون
ووجد السعادة يوسف عليه السلام، وهو يسجن سبع سنوات فيسألونه
عن تفسير الرؤى، فيتركها، ثم يبدأ بالدعوة فيقول:
يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خيرٌ أم الله الواحد القهار [يوسف:39].
فيعلن الوحدانية، فيجد السعادة.
ووجدها أحمد بن حنبل في الزنزانة، وهو يجلد جلداً، لو جلده
الجمل لمات، كما قال جلاده، ومع ذلك يصر على مبدأ أهل السنة والجماعة، فيجد
السعادة.
أما الذي جلده، وهو المعتصم، فلما حضرته سكرات الموت، رفع
بساطه، ومرغ وجهه في التراب، وبكى وقال: يا من لا يزول ملكه، ارحم من زال
ملكه. ثم يقول: لو علمت أني أموت شاباً، ما فعلت الذي فعلت من الذنوب.
ووجدها ابن تيمية، وهو يكبّل بالحديد، ويغلق عليه السجان
الباب، داخل غرفة ضيقة مظلمة، فيقول ابن تيمية:
فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب [الحديد:13].
ويلتفت ابن تيمية إلى الذين هم خارج السجن، فيرسل لهم رسالة،
وينشد لهم نشيداً، وينقل لهم نبأ وخبراً من السجن فيقول: ما يصنع أعدائي
بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، إن سرت فهي معي. . أنا قتلي شهادة، وإخراجي
من بلدي سياحة، وسجني خلوة!!.
ووجدها إبراهيم بن أدهم، وهو ينام في طرف السكك في بغداد، لا
يجد كسرة الخبز ويقول: والذي لا إله إلا هو، إنا في عيش، لو علم به الملوك
لجالدونا عليه بالسيوف!.
هذه هي السعادة، وهذه أحوال السعداء، ولا يكون ذلك إلا في
الإيمان والعمل الصالح، الذي بعث به الرسول عليه الصلاة والسلام، فمن سكن
القصر بلا إيمان، كتب الله عليه:
فإن له معيشة ضنكاً [طه:124]. ومن
جمع المال بلا إيمان، ختم الله على قلبه:
فإن له معيشة ضنكا. ومن جمع
الدنيا، وتقلد المنصب بلا إيمان، جعل الله خاتمته
فإن له معيشة ضنكا.
فيا طلاب السعادة، ويا عشاق السعادة، ويا أيها الباحثون عن
الخلود في الآخرة، في جنات ونهر، لا يكون ذلك إلا من طريق محمد عليه الصلاة
والسلام.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، ولجميع
المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.