الإعلام العربي بين التحريض والتضليل .. الثورة المصرية نموذجاً

التسجيل : 27/06/2008

بسم الله الرحمن الرحيم
أذكر الله

نجحت الثورة المصرية المباركة التي اندلعت شرارتها الأولى في الخامس والعشرين من يناير الماضي، ليس فقط في تحقيق إنجازات ومكاسب سياسية غير مسبوقة على الساحة المصرية لم نكن نشهدها قبل ثلاثين عاماً، بل أسقطت معها كثير من الأقنعة الزائفة وفضحت عورات مخجلة، ليس في مصر فحسب، بل في كافة أرجاء الوطن العربي، الذي قبع لسنوات طويلة تحت وطأة الظلم والاستبداد ومصادرة الحريات والرقابة على حرية التعبير. ويبدو أن الإعلام العربي بشتى صوره، وبخاصة المرئي منه كان إحدى تلك الأقنعة الزائفة التي كشفتها الثورة المصرية المباركة.

فعلى الرغم من كل المؤتمرات والمنتديات التي عُقدت في السنوات الأخيرة حول آفاق جديدة للإعلام العربي وإفساح المجال أكثر لحرية التعبير والتواصل فيه، وتحريره من القيود السياسية، لكنه اتضح في نهاية المطاف بأنها كانت أوهام وسراب ظل يهرول خلفه الجميع، لإثبات وجود نوع من الديموقراطية العبثية التي يعيشها الإعلام العربي. ومع كل المساوئ والإيجابيات سوف نستعرض سوياً من خلال السطور التالية توجهات هذا الإعلام الذي لم يحد وصفه عن كونه إعلام مُحرِض من جهة، تمثله عدد من القنوات التليفزيونية العربية، ومن جهة أخرى إعلام يوصف بأنه إعلام تضليلي تمثله بعض القنوات الأخرى، وبين هذا وذاك سنجعل الثورة المصرية نموذجاً للحكم عليهما بموضوعية في التغطية الإعلامية، ووصول صورتها للمشاهد العربي بصدق وأمانة بعيداً عن التحريض المغرض الذي يهدف إلى الإثارة والقلاقل، وعن التضليل المقيت الذي يهدف إلى القمع والاستبداد.

الإعلام التحريضي:

ولنبدأ أولاً بالإعلام التحريضي، الذي تجسد بصورة صارخة في الخدمة الإعلامية التي قدمتها مجموعة قنوات الجزيرة القطرية (الإخبارية - الإنجليزية - مباشر) وأيضاً بأقل حدة وأكثر توازناً من خلال قناة "العربية"، وعدد آخر من القنوات العربية المستقلة.

فمن خلال المتابعة الموضوعية لهذه القنوات سالفة الذكر، لاسيما الجزيرة الإخبارية، يبرز الاتجاه التحريضي والإثاري الواضح في كل ما قدمته من مواد إعلامية على شاشاتها، والتي استمرت لأكثر من 12 يوماً متتالية تقريباً، لا تقدم مواد إخبارية سوى فقط المتعلقة بمصر، وما تشهده من أحداث وتداعيات نتيجة للثورة المباركة التي انطلقت في 25 يناير، وكأن العالم كله بات بدون أحداث وحوادث، يجدر بقناة إخبارية كتلك، بتغطيتها من خلال شبكة مراسليها في جميع أنحاء العالم، وحتى عندما يتحول مقدم البرنامج أو النشرة بعيداً عن مصر، بتحدثه مع أحد الخبراء أو المراسلين في دولة أخرى، نجده لا يتحدث إلا عن مصر، وكأن لا توجد أحداث كهذه سوى في مصر فقط. وهنا نشير أن تغطية الجزيرة للثورة في تونس، وهي أيضاً قطر عربي مهم، لم تكن على المستوى المطلق الذى تغطي به الأحداث الحالية في مصر. ففي وقت الثورة التونسية، كانت قنوات الجزيرة تحدد لها أوقات مخصصة لتغطيتها، وتتناول في الأوقات الأخرى باقي الأحداث التى يشهدها العالم على عكس ما حدث فى تغطية الثورة المصرية، وهو ما جعل البعض يؤكد أن الجزيرة تتعمد فقط الإساءة لمصر من خلال إبراز المواقف والآراء المعادية لنظامها الحالي برئاسة حسني مبارك، ومواصلة إثارة المتظاهرين وجموع الجماهير في آن واحد للعمل على التخلص من النظام المصري، وألا يتوقفوا عن التظاهر حتى إسقاط النظام، وذلك عبر الرسائل التى تنقلها الجزيرة على شاشاتها من خلال الحوارات والأحاديث التى تجريها مع الشخصيات التى تستضفها، سواء فى الأستوديو الرئيسي فى قطر، أو في مكتبها بوسط القاهرة، أو حتى من قلب ساحات المظاهرات المختلفة. فيما اعتبر البعض الآخر أن قناة الجزيرة تقوم بذلك كله تطبيقاً لأجندات سياسية خارجية، لصالح قطر وإيران في المقام الأول.

رموز المعارضة:

ومن خلال المتابعة الإعلامية للمواد الإخبارية التى قدمتها قنوات الجزيرة طوال فترة الثورة المصرية، يتبين أنها كانت تتعمد فقط إجراء المقابلات مع الرموز والعناصر المعادية والمعارضة للنظام المصري، أو مع شخصيات كانت أحد أركان هذا النظام وتبرأت منه عقب اندلاع الثورة، والغريب فى الأمر أن تبرأ هؤلاء جاء من فوق منابر قنوات الجزيرة.

وأرى أن ما ساهم فى تصعيد قناة الجزيرة لتحريضها الإعلامي أكثر ضد النظام المصري وخروجها عن قواعد الحياد والموضوعية الإعلامية، هو اعتبار طاقم مكتبها الإعلامي فى القاهرة وما فيه من مراسلين وصحفيين بأنهم مستهدفين من النظام المصري ذاته، والترويج بأنه يتعمد ملاحقتهم والتضييق عليهم بسبل وطرق مختلفة، سواء من خلال قطع الاتصالات الهاتفية الأرضية بالمكتب أو من خلال تعليق بثها الحي والمباشر على القمر الصناعي النايل سات. ولعل المسئولون عن قناة الجزيرة كانوا يدركون نوايا النظام المصري تجاههم منذ الوهلة الأولى لإندلاع الثورة، لذا كانوا يصرون على تنويه المشاهدين بالترددات الجديدة للقناة فى حال قطع إرسالها، بينما ذلك لم يحدث مع قنوات عربية إخبارية أخرى والتى كانت تحمل نفس المضمون التحريضي، ولكن بنغمة أقل مثل قناة "العربية" وبخاصة خلال الأيام الأولى من الثورة، وإن كان قد حدث تغيير بعض الشئ فيما بعد.

نعم، وبحق، فقد أثبتت الأحداث التى شهدتها مصر وما تخللها من أعمال عنف وشغب - رغم وقوفنا وتضامننا جميعاً مع ثورة الشباب وأهدافهم فى التغيير والإصلاح لوطن ظل لسنوات يرزخ ويئن من وطأة الظلم والاستبداد - بأن الإعلام الذي قدمته الجزيرة بقنواتها المختلفة هو إعلام تحريضي فى المقام الأول، بعيداً عن الموضوعية والحياد الإعلامي المطلوب، وهو ما يبرهن على وجود أهداف سياسية تقف من وراء رسائلها الإعلامية التى تقدمها للمشاهد.

الإعلام المضلل

أما الإعلام المضلل والذي كشفت عن وجهه القبيح الثورة المصرية، هو الإعلام الحكومي بقيادة التليفزيون المصري، الذي سعى بالتوازي مع الإعلام التحريضي الذي قادته قناة الجزيرة إلى تشويه متعمد للوجه الجميل والهدف النبيل لثورة شباب مصر ضد الظلم والقمع والاستبداد، وتعامل حيالها باستخفاف مستفز ومثير للمشاعر، وتصوير أنصارها بأنهم حفنة ضالة من الشباب، تندس بينهم عناصر تحريضية مثيرة للشغب والعنف تنتمي لجماعات مصرية محظورة. وخلال الأيام الأولى من الثورة ظل الإعلام الحكومي المصري، وفى ذيله عدد من الفضائيات المصرية التى يمتلكها عدد من رجال الأعمال المصريين المحسوبين على نظام مبارك، يتعامل مع ثورة الشباب باستخفاف، منتقداً التهويل الذي تقوم به القنوات الأخرى وعلى رأسها الجزيرة، لحد أصبح كل خبر ونبأ يبثه التليفزيون المصري - الذى فضّل عدم التواصل مع المتظاهرين منذ البداية - مقروناً بتكذيب لما ذكرته قناة الجزيرة. ثم ما لبث هذا الإعلام التضليلي أن قام بتغيير نبرته والتعامل مع شباب 25 يناير على أنهم ثوار، بعد أن فُضح كذبه وتضليله المقيت لجموع الشعب المصري، وبدأت التغطية الإعلامية الحكومية المصرية فى تغيير نهجها الإعلامي، من خلال السعي للتواصل مع بعض هؤلاء الشباب الثائرين فى ميدان التحرير الذي رفض الكثير من جانبهم التعامل معه، لاعتقادهم بأنه يسعى للحط من إنجازاتهم والتقليل منها. ومع استمرار الثورة، وبعدما تبين أنه لا مفر سوى التواصل التام، بل والتضامن مع أنصارها بدأ التليفزيون المصري فى فتح أبوابه لثوار شباب مصر، لعرض آرائهم ومواقفهم على الشاشات الرسمية، حتى تلك التى تطالب علنية وصراحة برحيل الرئيس مبارك فوراً عن الحكم، بعد أن كان هذا أمراً مُحرَم ذكره أو حتى التلميح إليه على شاشات التليفزيون المصري.

عورة الإعلام العربي

على أية حال بين التحريض الإعلامي العربي بقيادة الجزيرة والتضليل الإعلامي بقيادة التليفزيون المصري، نجحت ثورة الشباب المصري فى الكشف عن مساوئ وعورة إعلامنا العربي، وأنه لا يزال بعيداً عن الموضوعية والحياد المطلوب. فالنموذج للإعلام التحريضي بقيادة قناة الجزيرة القطرية نجده يتكرر فى كل دولة عربية، دون الوضع فى الاعتبار خصوصية كل دولة ومصالحها العليا على حده، وبينما يتحدث المسئولون عن تلك القنوات عن أهمية إفساح الطريق أمام حرية الإعلام وممارساته، وضرورة وصول الكلمة إلى جميع المشاهدين، يتبين لنا بأنه بالطبع إدعاء كاذب وزائف، لأن الجزيرة تكيل بمكيالين فى عملها الإعلامي، فنجدها من جانب لا تعرض الصورة الحقيقية والكاملة عندما يتعلق الأمر بالدول والأنظمة التى تربطها علاقات قوية بالنظام القطري والإيراني؛ فعلى سبيل المثال لا الحصر، لم تتعرض الجزيرة للدعوة التى انتشرت فى سوريا مؤخراً بالخروج فى مظاهرات ضد النظام التوريثي فى سوريا بقيادة بشار الأسد، وتجاهلت ذكر التهديدات التى تلقاها مكتبها فى دمشق من ذكر أي شئ يسيء للنظام السوري، كما لم تحرص الجزيرة على تغطية كافة الأحداث التى شهدتها إيران خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة وانتهاك الحريات وقمع المتظاهرين على يد رجال الحرس الثوري الإيراني بنفس الصورة التى تقوم بها حالياً فى تغطيتها لثورة الشباب فى مصر، كما تتجاهل الجزيرة رصد الانتهاكات من ممارسات حزب الله فى لبنان ضد أهل السنة هناك. أما الإعلام الحكومي فى الدول العربية قاطبة فمن المؤكد أنه سيأخذ السبيل الذي سلكه الإعلام الحكومي المصري، وهو سبيل التضليل وإخفاء المعلومات والحقائق، بهدف تهدئة الشعب وعدم إثارته، بزعم الحفاظ على الاستقرار وحماية الأمن فى البلاد، وغض الطرف عن التجاوزات وانتهاكات حقوق الإنسان على يد الأجهزة التابعة للنظام الحاكم.

دروس الثورة المصرية

أخيراً يجب الاستفادة من الدرس الذي قدمته ثورة الشباب فى مصر ليكون نموذجاً يحتذى به فى باقي الأقطار والدول العربية، ليدرك الجميع أنه لا يعلو شئ فوق إرادة الشعوب، وأنه يجب إحترام إرادتهم دون تحريض أو تضليل، وأن تنزل كافة الأنظمة العربية لرغبة شعوبها، حقناً للدماء ودرءاً للفتنة والوقيعة، التى تسعى أطراف خارجية لإشعالها لتحقيق أهدافها ومخططاتها، وللأسف الإعلام التحريضي يلعب فيها دوراً بارزاً، لا يمكن لأي وطني ومحب لبلده أي كانت أن يتحدث باسمه أو يعبر من خلاله عن رأيه.

على أية حال يجب على الإعلام بكافة أشكاله أن يلتزم بقواعد الحياد والموضوعية المطلقة، دون الميل إلى جانب عن الآخر، وتبني وجهة نظر أو موقف طرف عن الآخر، إلا إذا كان هذا الإعلام يخدم أجندة خاصة أو تيار سياسي بعينه يتحدث باسمه ويعلن ذلك صراحة. فالإعلام رسالة وأمانة يجب تقديمها للمشاهد دون تحريف أو تشويه، وبعيداً عن التحريض والتضليل، لكي يحقق غايته وأهدافه السامية فى توصيل الحقيقة المطلقة دون مراوغة أو تشويه، ولتكن الثورة المصرية المباركة بداية انطلاق لإعلام عربي حقيقي يخدم جموع الشعوب العربية بهدف النهوض والارتقاء بها.

الإعلام العربي بين التحريض والتضليل .. الثورة المصرية نموذجاً

الإعلام العربي بين التحريض والتضليل .. الثورة المصرية نموذجاً

مواضيع مماثلة

مواضيع مماثلة

مواضيع تُهمك

تابعنا وتواصل معنا

خدمات شبكة عطر الإسلام

المواضيع المُتميزْة

		حفظ البيانات؟