اللّهمّ لكَ الحمدُ تفرّدتَ بالبقاءِ, وكتَبتَ على غيرِكَ الفناءَ, لَكَ العِزّةُ والكِبرياءُ, ولَكَ أجَلّ الصِّفاتِ وأحسَنُ الأسماءِ, أنتَ عَالِمُ الغَيبِ المُبرَّءُ مِنْ كُلِّ عَيبٍ, مُلكُكَ عَظيمٌ, وَجَنابُكَ كَريمٌ, وَأنتَ الرَّحمنُ الرّحيمُ.
وَصَلّى اللهُ عَلى مُحمّدٍ حِينَ اصطَفاهُ, وَسَلّمَ عَلى ذلِكَ الوجهِ مَا أَبهَاهُ, وَبَارَكَ اللهُ عَلى الأُسْوَةِ مَا أَكمَلَهُ وأَعلاَهُ.
منَّ اللهُ سبحانهُ وتعالى علينا بشهرٍ عظيمةٍ بركتُه، مُستجابَةٍ دعوتُهُ ، مضاعفَةٍ حسناتُه، ظاهرةٍ نعمتُه، تُصفَّدُ فيه الشياطينُ وتُغلَّقُ أبوابُ النَّارِ وتُفتحُ أبوابُ الجَنَّةِ ويُنادي مُنادٍ من السماءِ يا باغيَ الخيرِ أَقْبِلْ ويا باغيَ الشَّرِ أَقْصِرْ ....


شهرٌ فيه ليلةٌ خيرٌ من ألفِ شهرٍ أُنزِلَ فيها القرآنُ وكانت بدرٌ وأحدٌ وفتحُ مكةَ والقادسية .
فيه فُتِحت مصرُ وبُخَارى وطَرابُلسُ وخُراسانَ وَالأنبارُ والحيرةُ ودَوْمَةُ الجنْدَلِ ....

وصيامُ شهرِ رمضانَ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الفُروضِ الَّتي فَرَضَها اللهُ عليْنا فيَبْدَأُ في وَقْتٍ مًعَيَّنٍ ولَهُ كَيْفِيَّةٌ مِنَ الانتهَاء، وقد خَصَّ اللهُ هذا الشهرَ بِخَصَائِصَ ومَيِّزاتٍ كثيرةٍ منها مُضاعفةُ الأجْرِ والثَّوابِ، فَكَما لا يُجْزِئُ صيامُ أيِّ شهرٍ عن فَرْضِ صيامِ شهرِ رمضان، فإنَّ مضاعفَةَ الأجرِ الذي ينالَهُ المسلمُ في رمضان لا ينالُه في أيِّ شهرٍ آخرَ .

فكيفَ تستغلُّ حاملةُ الدعوةِ هذا الشهرَ؟ وما السبيلُ لها لنيلِ عظيمِ الأجرِ والثوابِ ؟

وِقفةٌ لا بُدَّ أن تقِفَهَا كلُّ حاملةِ دعوةٍ ونحنُ في بِدايةِ هذا الشهرِ الفضيلِ ، تسألُ نفسَهَا عن صِدْقِ إيمانِهَا وهل هيَ تتصرَّفُ بحَسَبِ هذا الإيمانِ ؟ وهلْ أدركتْ حقيقةَ صِلَتِهَا باللهِ والتي تُوجِّهُهَا للعملِ بجدٍّ لطاعةِ اللهِ وتنفيذِ أوامرٍهِ ، وَمنْ جُملةِ هذهِ الأوَامرِ حَمْلُ الدعوةِ والعملُ معَ جَماعَةٍ لاستئنافِ الحياةِ الإسلاميَّةِ .
وعليها أيضاً أن تسألَ نفسَهَا هل أدركَتِ الغايةَ منِ هذا العملِ؟ وهلْ عَلِمتْ حقاً الهدفَ الذي تَسْعَى لتحْقِيقِهِ ؟

فإنْ أدركت ْكلَّ هذهِ الأمورِ أدركتْ أنَّ حملَ الدعوةِ يجبُ أنْ يكونَ شغلَهَا الشاغلَ بل وهَمَّهَا المتواصِلَ فهوَ فرضٌ يختلفُ عن باقي الفروض، كيف لا وجُلُّ الفروضِ لها وقتٌ وكيفيةٌ تنتهي عندَها، إلاَّ أنَّ الدعوةَ الإسلاميَّةَ لا تنتهي بلْ وتستغرقُ حياةَ الأمَّةِ الإسلاميةِ حتى تلاقي ربَّهَا.
لِذا وجَبَ على حاملةِ الدعوةِ الجِدُّ والعملُ المُتواصِلُ فَلا كَلَلَ وَلا مَلَلَ ولا تَوَقُّف ، بل إنَّ عليها كسبَ الفُرَصِ بل واستغلالَهَا أيَّما استغلالٍ لزيادةِ العملِ وبالتَّالي زيادةُ الأجرِ والثوابِ .

إنَّ من أدركتِ الغايةَ وَسَعَتْ لتحقيقِ الهدفِ ــ ذلكَ أنَّها من خيْرِ أمَّةٍ أخرجتْ للناسِ منْ هذهِ الأمَّةِ الوسَطِ والتي جَعلهاَ اللهُ منَ الشُّهداءِ على الناسِ ــ علمَتْ مسؤوليَّتَها العُظمَى في حَمْلِ الإسلام ِرسالةً للعالمين .بل نجدُهَا تُذَلِّلُ الصعوباتِ والعوَائقَ التي تَحُولُ بينها وبينَ الناسِ لحملِ الدعوة ِلهُم ، فنجدُهَا تَبْتَدِعُ أنسبَ الوسائلِ والسُّبُلِ المشروعةِ من أجلِ ذلكَ .
فَمِنْ دروسٍ في المساجدِ في رمضان ، إلى الدعوةِ المُتَقَصِّدَةِ لكسبِ الناسِ ولَفْتِ نظرِهم إلى قَضِيَّتِهم المصيريَّةِ ، بل وإنَّها لتَبْحَثُ عن أيِّ وسيلةٍ علميةِ بهذا الصَّدد كالنِّتِّ والرسائلِ الإلكترونِيَّةِ ، وطبعاً دونَ تقصيرٍ في الطَّريقةِ الشرعيةِ في حملِ هذه الدَّعوةِ الإسلاميةِ .

فليسَ معنى صيام ِهذا الشهرِ أن نُهملَ باقيَ الفُروض والواجباتِ بلْ إنَّ على كُلِّ مسلمٍ ومسلِمَةٍ بَذْلَ الجُهدِ في إتْمامِهَا والقيامِ بِهَا خَيْرَ قِيامٍ ، حتَّى لا يحرِمَ نفْسَهُ أجَرْ َوثوابَ العملِ

وَمِنَ المُلاحَظِ أنَّ هناكَ مشكِلَةً يقفُ أمامَهَا بعضُ حملةِ الدَّعوةِ وخاصَّةً النساءَ ألاَ وهِيَ تَزَاُحمُ المسائِلِ والواجباتِ الدَّعويَّةِ والدُّنيويَّةِ خاصةً في رمضان،، فَلاَ يعرِفْنَ كيفِيَّةَ ترتيبِ الأوْلَوِيَّاتِ أيْ على أيِّ أساسٍ نحكمُ أَنَّ هذهِ القضيةَّ أَوْلَى مِنْ تِلْك .

وَكَمَا هوَ معلومٌ لدينَا فإنَّ تَرْتيبَ الأولوياتِ لا يجوزُ أنْ يكونَ بِنَاءً على ما هُو مُتاحٌ أو ما هوَ مُتَيَسِّرٌ أو مسموحٌ أو مرغوبٌ بِهِ ، بل إنَّ صاحبَ الحقِّ في تحديدِ الأولوياتِ هو الشَّرْعُ نَفْسُهُ وليسَ مِنْ حَقِّ أحدٍ أن يُعْطِيَ نفسَهُ هذا الحقَّ من غيرِ هذا المصدرِ.
فالشَّرْعُ حينَ شَرَّعَ الأحكامَ جعلَ الواجبَ أوْلَى منَ المندوبِ وجَعَلَ الحرامَ أخطرَ مِنَ المكروهِ، وَبَيَّن لنا أيضاً أنَّ هناكَ واجباتٍ مهمةً وواجباتٍ أهَمّ , وباسْتِقْرائِنَا للشَّريعَةِ نَلْمِسُ في تفصيلِهَا أنَّ الإسلامَ جعلَ بعضَ القضايا أوْلَى من بعضِهَا الآخرَ.

فجعلَ حفظَ الدينِ مثلاً في أعلى المستوياتِ وجعلَ الحكمَ بِمَا أنزلَ اللهُ من أعلى المراتبِ وجعلَ وِحدَةَ الأمَّةِ مِنْ أهمِّ القَضايا ، إذْ أوجبَ على المسلمينَ الانقيادَ لإمامٍ واحدٍ ودَعَا إلى الحفاظِ على هذهِ الوِحْدَةِ ولو بقوَّةِ السيفِ.

لذا نجدُ أنَّ حاملةَ الدعوةِ تَعْتَبِرُ هذا الشهرَ شهرَ الغنائمِ في نَيْلِ الأجرِ لا شهرَ الولائِم ،شهرَ العبادةِ والعملِ لا شهرَ التلفازِ والكسلِ ،، كيفَ لا واللهُ سبحانَهُ وتعالى يُجْزلُ لنا العَطَاءَ فِيه،، قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم : إنَّ شهرَ رمضانَ شهرٌ عظيمٌ يضاعفُ اللهُ فيه الحسناتِ ويمْحُو فيه السَّيئاتِ ويرفعُ فيه الدَّرجاتِ،، مّنْ تصدَّقَ في هذا الشهرِ بصدقَةٍ غَفَرَ اللهُ لهُ ومَنْ أحسنَ فيهِ إلى ما ملكتْ يمينُه غَفَر اللهُ لهُ '،، لِهَذَا على حاملةِ الدَّعوةِ النظرُ للأجرِ الكبيرِ الذي يصيبُهَا وهيَ تقومُ بخيرِ عملٍ وهو عَمَلُ الأنبياءِ والمُرسلِين ،، كيف لا تعملُ وقد سمعتْ قولَهُ صلى اللهُ عليه وسلم : ' أتاكمْ رمضانُ شهرُ بركةٍ، يغشَاكُمُ اللهُ فيه، فيُنَزِّلُ الرحمةَ ويَحُطُّ الخطايَا ويستجيبُ الدعاءَ، وينظرُ اللهُ تعالى إلى تنافُسِكُم فيه، ويُباهِي بكمْ مَلائِكَتَهُ، فَأَرُوا اللهَ من أنفسِكُمْ خيراً'

فأيُّ تنافسٍ أعظمُ منْ تبليغِ شرعِ اللهِ والعملِ معَ العاملينَ لإعادةِ الحُكْمِ بمَا أنزلَ اللهُ،، وأيُّ غنيمةٍ أفضلُ منْ نيلِ رِضوانِ اللهِ تَعَالى والَّتي تَبْذَلُ من أجْلِهَا وَقْتَهَا وَجُهْدَهَا وَمَالَهَا ، وتنتظرُ في نِهَايةِ الشهرِ أن تَكونَ ممَّنْ قال َعنهم رسولُ اللهِ: ' ويغفرُ لهمْ (أيْ للصَّائمينَ) في آخرِ ليلةٍ منْ رمضان. قيلَ: يا رسولَ اللهِ أَهِيَ ليلَةُ القدْرِ؟ قال: لا، ولكنَّ العاملَ إنَّمَا يُوَفَّى أجْرَهُ إذا قَضَى عَمَلَه'.

اللَّهُمَّ قدْ حضرَ رمضانُ وقد فَرضْتَ علينا صيامَهُ وأنْزَلتَ فيه القرآنَ هُدًى للنَّاسِ وبَيِّناتٍ منَ الهُدَى والفُرْقَانِ،، اللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلى صيَامِهِ وَتَقَبَّلْهُ مِنَّا وَتَسَلَّمْهُ منَّا وسَلِّمْهُ لَنَا في يُسْرٍ منكَ وعافيةٍ إنكَ على كُلِّ شئ ٍقدير.

اَللّهُمَّ قَرِّبْني فيهِ إلى مَرضاتِكَ ، وَجَنِّبْني فيهِ مِن سَخَطِكَ وَنَقَماتِكَ ، وَ وَفِّقني فيهِ لحملِ دعوتِكِ على الوجْهِ الذي يُرْضِيكَ ، بِرَحمَتِكَ يا أرحَمَ الرّاحمينَ.

اللهم آمين آمين ، وآخر دعوانا الحمد لله رب العالمين

وصلِّ اللهمَّ على سيدنا محمدٍ وعلى آلهِ وصحبهِ أجمعين..

والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته