بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين
هل الثورات العربية ثمرة من ثمار المشروع الجهادي؟ / عثمان البدراني
بعد مقتل أسامة بن لادن، ظهرت تحليلات كثيرة تقول بأن القاعدة ماتت عندما نجحت الثورات العربية، وكأنها تريد أن تقول بأن المشروع الجهادي قد فشل، وأعتقد أن في ذلك اجتزاءً، للسياق التاريخي الذي حدثت فيه هذه الثورات، وكأنها حدثت في فضاء معزول!
ولأجل قراءة الثورات العربية في سياقها التاريخي، فمن المهم تذكر المراحل التي مرت بها قضية الحكم في المنطقة العربية منذ سقوط الخلافة الإسلامية.
فبعد سقوط الخلافة كانت مرحلة الاستعمار الغربي المباشر للدول العربية، ولم تأت مرحلة الاستقلال إلا عندما لم يعد بإمكان الدول المستعمرة الاستمرار في حكم المنطقة بشكل مباشر، وذلك نتيجة لجهود حركات التحرر التي كانت تتبنى فكر الجهاد وأدبياته. وقد تلت هذه المرحلة مرحلة الاستقلال الشكلي، بعد اختطاف ثمار حروب التحرر للأسف، فاستمرت الوصاية الغربية وتوزيع الولاءات والنفوذ والإدارة من بعد، مع دخول أمريكا كبديل لبريطانيا المستعمرة في الخليج ومصر والأردن، واستمرار النفوذ الفرنسي في المغرب العربي ولبنان، وانشقاق بعض الدول العربية للمعسكر الشرقي كما هو حال سوريا وليبيا، وتأرجح العراق والسودان بين الشرق والغرب! وقد استمر هذا الحال طوال فترة الحرب الباردة.
ومع اشتعال الجهاد في أفغانستان بدأت مرحلة جديدة في تاريخ الأمة، حيث استفاد الجهاد من أجواء الصراع الغربي الروسي، من حيث الحصول على الدعم المالي والمعنوي وربما العسكري، والغطاء السياسي والإعلامي، من الغرب والدول الحليفة له، وقد كان الهدف هو إضعاف روسيا بالطبع، لا نصرة المستضعفين في أفغانستان، لأن الأمة كانت تعج بالمستضعفين في فلسطين، والفلبين وبورما ومناطق في أفريقيا، وغيرها من مناطق العالم الإسلامي.
ولم يكن يَتَوقع من دَعَم الجهاد أن يخرج هذا المارد من القمقم، وأن ينتشر في كل العالم! ولكن الله أراد شيئاً آخر، فاكتشفت الأمة أنها تملك سلاحاً لا يمكن للأعداء مقاومته: أناس يشرون الموت كما يشري غيرهم الحياة!
ولكن للأسف فقد حدثت انحرافات في مسيرة الجهاد، يوم استهدف بعض الدول الإسلامية المستقرة، فتحول من مقاومة العدو الخارجي المحتل إلى أداة لحسم الخلافات المجتمعية بين المسلمين! واستهداف بعض الأبرياء في هذه الدول، بناء على اجتهادات فقهية غير موفقة، فكانت النتائج السلبية الكبيرة على الجهاد والمجاهدين.
وفي مقابل ذلك، وبالنظر إلى الصورة الكلية، بعيداً عن الغرق في التفاصيل والجزئيات، أو التركيز على هذه الأخطاء، فقد كان الصراع الجهادي مع الغرب يخدم المصالح العليا للأمة، ويصب في صالح رفع يد الغرب، وإنهاء استهتاره، ولا مبالاته بالشعوب المسلمة، وتحقق عمليات الجهاد- بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف معها- إثخاناً واضحا في العدو الخارجي الذي يهيمن على الأمة وينهب خيراتها، وهذا ما دفع الغرب للتفكير في البدائل الممكنة، بعد أن أيقن أنه غير قادر على حسم المعركة عسكرياً؟ وخصوصاً بعد أن غرق في حروب أفغانستان والعراق، والتداعيات السياسية والاقتصادية لذلك.
ومن المهم الإشارة إلى أن بعض أدبيات الجهاديين كانت قد ذكرت أن استراتيجيتها على المدى البعيد، ومنذ نهاية القرن الميلادي الماضي، تقوم على جر أمريكا إلى المنطقة لإنهاكها اقتصادياً وعسكرياً، كما حدث مع الاتحاد السوفييتي، وذلك من أجل إجبارها على رفع يدها عن الأنظمة العميلة في المنطقة، حسب وصف القاعدة، بدل إضاعة الوقت مع هذه الأنظمة، التي ستسقط تلقائياً لو رفع الغرب عنها الدعم! ومن هذه الأدبيات ما سمي" خارطة طريق المجاهدين"، وهي متاحة على النت (1).
وفي اعتقادي أن تقبل الغرب للثورات ناتج من أنه أنهك من المواجهة مع القاعدة والجهاديين.. الذين لا يعترفون بالحدود ولا الأنظمة والقوانين الدولية ..ولو لم يوجد الجهاد، وتنهك أمريكا في العراق وأفغانستان وغيرها، لما تقبل الغرب وجود الإسلاميين في الحكم، ومشاركتهم فيه .. ولما تقبل الديمقراطية التي ربما تأت بهم في مصر وتونس وغيرها.. ولكنه اقتنع بأن ذلك يعد من باب "أخف الضررين .. " وقد تكون التجربة التركية قد شجعت الغرب على قبول الإسلاميين، لأنها جاءت بحكومة إسلامية متفاهمة مع الغرب، وتحقق التنمية، وتحد من مشكلات الفقر، التي تدفع الناس للهجرة إلى الغرب .. ودون أن تكون هذه الحكومة معادية له!
ومما يدعم هذا التحليل، أن الغرب عمد إلى حسم معركة ليبيا لصالح الثوار، بعد أن بدأت المواجهة المسلحة بين الثوار والحكم الليبي، ولم يعد بالإمكان العودة إلى الوراء، ولم يعد بإمكان النظام الليبي حسم المعركة لصالحه، مع أن الغرب صمت لفترة في بداية الثورة آملاً أن يستطيع القذافي الحسم، حتى ولو بشكل عنيف، ولكن عندما لم يستطع ذلك، وخاف الغرب أن تدخل القاعدة على خط المواجهة العسكرية فتحسم الصراع لصالحها، تدخل الغرب عسكرياً، واعترف بالمجلس الوطني ممثلاً شرعياً وحيداً للثوار.. ولنضع عدداً من الخطوط تحت كلمة "وحيداً" .. فهي تهدف لقطع الطريق في وجه أي فصيل مسلح آخر، كالقاعدة التي تنشط في بلاد المغرب العربي، وهذا الاعتراف لم يحدث في مصر ولا تونس، كما أن التدخل لم يحدث، ولا يتوقع أن يحدث في اليمن وسوريا، في المدى المنظور، إلا إذا تبدلت المعطيات على الأرض، وأصبح "التهديد" الجهادي واضحاً!
بالتأكيد فإن الغرب لا تهمة الديمقراطية، ولا الحرية، فهو يتحالف حالياً مع أنظمة دكتاتورية لا تعرف أنفاس الحرية والديمقراطية، لكنها تحمي مصالحه! كما كان حال الأنظمة التي سقطت في تونس ومصر! كما أنه يفعل في ثوار أفغانستان وباكستان أكثر مما يفعل القذافي، ولكن هي المصالح والأولويات!
وفي موازاة المشروع الجهادي، فإن الوعي السياسي، وانتشار ثقافة الحقوق والحريات، التي أسهمت فيها ثورة الإعلام التقليدي والجديد (2)، قد أنضجت الثورات العربية وسرعت أوانها أيضاً.
أخيراً فإن من المهم التفريق بين أن يكون المشروع الجهادي قد فشل في التغيير، أو أنه كان جهداً عبثياً، وبين أن يكون قد أسهم في نجاح الثورات وتقبلها من خلال إيجاد الواقع الذي جعلها أخف الضررين بالنسبة للغرب، ولكنه- أي الجهاد- يظل وسيلة يمكن استبدالها، لو تحققت الأهداف بوسائل أخرى.
كما أن عدم وقوف الحركات الجهادية وراء الثورات بشكل صريح، أو أن يتم قطف ثمار هذه الثورات من قبل تيارات غير جهادية، لا يعني أن الجهاد لم يكن له دور في التغيير.
عثمان البدراني