بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين

حبيب العادلي في غزة / شريف عبد العزيز

في أتون الثورة المصرية المباركة قام رجلان يدعى أحدهما أحمد محمد خالد، والآخر محمد عبد الهادي باللجوء إلي السفارة الإنجليزية في مصر، طالبين حق اللجوء السياسي لانجلترا، وكان ذلك العمل إيذانا بالكشف عن واحدة من أخطر جرائم وزير الداخلية المصري السفاح " حبيب العادلي "، إذ كشفت التحقيقات مع هذين الرجلين عن مخطط حبيب العادلى لتفجير كنيسة القديسين بالإسكندرية، وذلك بتكليف تكليف القيادة رقم 77 ـ اسمه الرائد فتحي عبد الجواد ــ بتاريخ 2 ديسمبر 2010 حول بحث إمكانية تكتيف الأقباط وإخماد احتجاجاتهم المتتالية وتهدئة نبرة البابا شنودة في خطابه مع النظام، بواسطة تنفيذ عمل تخريبي ضد إحدى الكنائس بمعرفة الداخلية، ثم تلصق تلك التهمة أثناء التحقيقات لأحد القيادات الدينية المسيحية التابعة للكنيسة عن طريق جميع تحريات المعمل الجنائي والنيابة العامة، ثم تتجه الداخلية بعدها نحو البابا شنودة وتطلعه على نتيجة التحقيقات السرية، ثم تفاوضه بين إخماد الاحتجاجات القبطية المتتالية على أتفه الأسباب، وتخفيف حدة نبرات حديثه مع القيادة السياسية، وعدم تحريض رعايا الأقباط للتظاهر، وإما إعلان فيلم القيادة الكنسية بتدبير الحادث وإظهار الأدلة على الملأ أمام الرأي العام الداخلي والخارجي لتنقلب جميعاً على الكنيسة، خاصة أقباط مصر ورعايا البابا، وهو ما حدث بالفعل ورضخ البابا شنودة لتهديدات الداخلية بالأدلة الملفقة، وتم الاتفاق على الزج باسم أحد التنظيمات السلفية الجهادية، و من ثم كانت الحملة الشعواء على السلفيين في الإسكندرية وما حولها، ولكن الله عز وجل سرعان ما أخذ هذا السفاح أخذ عزيز مقتدر، وفضحه وأذله وسجنه، وكشف مؤامراته الشريرة وخططه الشيطانية التي تاجر من خلالها بأمن واستقرار ووحدة الوطن، ورضي بأن تعصف الفتن بالشعب المصري حتى ينعم سيده ومولاه الرئيس المشلوح " مبارك " بأمن كرسيه وسلطانه !، وعلى ما يبدو أن خطط حبيب العادلي الشيطانية قد لاقت رواجا وإقبالا من كافة الجهات التي لا تريد الخير للعالم الإسلامي والعربي، فتم استنساخها في غزة .
جريمة مريبة وأصابع خفية
فجأة وبسرعة غريبة وقبل أن تشرع القوات الأمنية التابعة لحركة حماس عملها في البحث عنه، تم تنفيذ حكم الإعدام شنقا أو خنقا في الناشط والمتضامن الإيطالي " فيتوريو أريجوني " وذلك بواسطة مجموعة وصفت نفسها بأنها كتيبة الصحابي الجليل محمد بن مسلمة رضي الله عنه، والتابعة لجيش التوحيد والجهاد المنتمي فكريا لتنظيم القاعدة، وذلك انتقاما من قيام حركة حماس بالقبض على أبي الوليد المقدسي واسمه هشام السعيدني زعيم حركة التوحيد والجهاد في غزة، وعلى الرغم من أن المختطفين قد أعلنوا عن مهلة 30 ساعة قبل الإعدام، إلا أنهم قد أعدموه فور وصول تهديدهم إلي حركة حماس .
وقد هزت تلك الحادثة فلسطين بأسرها، وذلك بسبب المواقف الطيبة للقتيل الإيطالي، ودعمه للقضية الفلسطينية منذ فترة طويلة حتى أنه اشترى منزلا في الضفة منذ عشر سنوات وأقام فيه، ولم يعرف بأي أنشطة استفزازية مثل التنصير أو مريبة حتى لا يتهم بالعمالة للموساد، وقد أبعدته إسرائيل عن غزة سنة 2007، ثم ما لبث أن عاد في أغسطس سنة 2008 إلي غزة وأقام فيها أثناء الحرب عليها في أواخر 2008، فخرجت المسيرات الشعبية في غزة والضفة منددة بالحادثة، وداعية لسرعة القبض على الجناة ومحاسبتهم .
ومما أضفى على الحادثة مزيدا من الغموض والريب أن تنظيم التوحيد والجهاد في غزة قد وزع بيانا أدان فيه الحادثة ونفى أي علاقة له بالحادث، ولكنه أشار أيضا إلى أن السياسة القمعية التي تمارسها حركة حماس ضد السلفية الجهادية هي السبب المباشر في أمثال هذه الحوادث، مما يوحي أن ثمة تنظيم جديد أو مجموعة منشقة عن التنظيم الأصلي هو الذي قام بهذه الحادثة منفردا ودون تنسيق أو رجوع إلي الحركة الأم .
الحادثة بكل أبعادها تعتبر غامضة حتى كتابة هذه السطور، وإعلان مجموعة ما مجهولة عن مسئوليتها عن الحادث، لا يخرجها أبدا من حيز الغموض والشك، فذلك الناشط تحديدا يمثل قتله علامة استفهام كبيرة، فهو من كبار الناشطين العاملين على نصرة القضية الفلسطينية واعتبرته إسرائيل في عدة مناسبات عدوا صريحا للإسرائيليين، وكان يقود حركة نشطة لجمع المتضامنين مع الشعب الفلسطيني حول العالم، وله جهود كثيرة في تعمير غزة، وأهل غزة كلهم يعرفونه ويحبونه، كما أنه لم يكن عضوا في الجمعيات التنصيرية المتسترة بالعمل الخيري، فلماذا إذا قتل هذا الرجل ؟ خاصة وأن تداعيات وأثر هذا الحادث سيكون كبيرا على مسيرة حركات السلام والحرية المنادية بكسر الحصار عن غزة، كما صرحت الناشطة الهولندية ومنسقة حركة غزة الحرة إيفا ميزوفتش، التي أعربت عن صدمتها عندما سمعت نبأ اختطاف وقتل أريجوني، قائلة : "لأنني لم أكن أتوقع أن يقتل في أفضل مكان أحبه في العالم، وظل يناضل من أجل البقاء فيه والوقوف إلى جانبه أهله"، وقد أعرب كثير من المراقبين والمحللين عن تخوفهم من استغلال إسرائيل للحادثة ونشر سياسية التخويف من نصرة والتضامن مع الفلسطينيين في الخارج، لتقطع الطريق أمام أعداد المتضامنين المتزايدة كل يوم مع القضية الفلسطينية وأهل غزة المحاصرين تحديدا .
إسرائيل واللعب على أوتار الفتنة
إسرائيل لم تمكث في غزة زيادة على أربعين سنة هدرا ولهوا، فهي لم تخرج من غزة إلا بعد أن أطمأنت بوجود الكثير من العملاء والخونة والجواسيس في سائر أنحاء غزة، ليكونوا عينها ويديها وأذنها على أهل غزة، وهو ما أمكن الصهاينة من تحسس مواطن التوتر والقلق في غزة، ومن أهم هذه المواطن والبؤر، التوتر المتصاعد بين حركة حماس والتنظيمات السلفية المسلحة في غزة .
إسرائيل أيقنت بعد عملية الوهم المتبدد سنة 2006، والتي قامت بها ثلاثة فصائل فلسطينية ؛كتائب القسام الذراع العسكري، ألوية الناصر صلاح الدين التابعة للجان المقاومة الشعبية، والجيش الإسلامي التابع للسلفية الجهادية، أن كيانها الغاصب يواجه خطرا داهما وتهديدا حقيقيا زلزل أركان قيادتها، ومن ثم ركز شياطين يهود على وضع الخطط والمؤامرات الخاصة بفك عرى هذا التحالف المنذر حال استمراره بكثير من الضربات الموجعة للصهاينة، داخل وخارج الكيان الصهيوني الغاصب .
السلفية الجهادية تشكلت في الأصل من مجموعات شبابية خرجت من عباءة حماس، في أعقاب دخول حماس العملية السياسية بانتخابات 2006، وذلك بعد عهود من الرفض لهذه المشاركة والاقتصار على جانب المقاومة ضد الكيان الصهيوني،وقد قوبلت هذه الخطوة بالنقد الشديد من جانب شريحة من شباب حماس، خاصة من كوادر القسام، ومما زاد من انشقاق هؤلاء الشباب البيان الشهير الذي أطلقه زعيم تنظيم القاعدة "أسامة بن لادن " ومنظر التنظيم " أيمن الظواهري " وقد شنا فيه هجوما عنيفا على حركة حماس وصل لحد وصفها بالموت كما قال الظواهري " أعظم الله عزاءنا في حماس " ووصفها ببيع الدين وخسارة الآخرة، والتنازل عن نهج الشيخ أحمد ياسين رحمه الله، وقد كان هذا الإعلان كفيلا بظهور السلفية الجهادية داخل قطاع غزة، ولكن بصورة أوجدت كثيرا من الشك والفتور المتبادل بين الجانبين .
حماس كانت تشعر بمرارة خروج هذه المجموعات الشبابية من عباءتها وانشقاقهم على الجماعة التي تربوا في أحضانها، وتعلموا فنون القتال تحت رايتها،مما يمثل خسارة استراتيجية للحركة بلا شك، كما كانت حماس تشعر بالتوجس والحذر من تحركات هذه المجموعات في ظل غياب القيادة الموحدة لهم، وافتقارهم للقيادة التنظيمية والفكرية أيضا، وعدم التزامهم بالتوجه العام للحركة، من تهدئة أو تصعيد مع العدو الصهيوني، وكان أكثر ما يقلق حماس من هذه التنظيمات الصغيرة الانتقاد الدائم من هذه التنظيمات لحماس بالضعف وترك الجهاد ومهادنة الصهاينة بالرضوخ لشروط التهدئة، والاتهام المستمر من هؤلاء الشباب لحماس بعدم تطبيق الشريعة والتلكؤ في تطبيقها خوفا من العالم الخارجي، وانتشار الكثير من المظاهر المنافية للشريعة في القطاع الذي تسيطر عليه حماس، والذي كان يفترض أن تكون إمارة إسلامية تحكم بشرع الله كما كانت تروج لذلك حماس من أيام خوضها لانتخابات 2006 , وشعرت حماس بأن هذه التنظيمات الصغيرة تهدد هيبتها ومكانتها، وتاريخها الجهادي الطويل، خاصة وأن هذه التنظيمات تتهم حماس اتهامات خطيرة تحمل اسم الدين الذي ظلت حماس لفترة طويلة تتصدر المشهد الجهادي في فلسطين باسمه وتحت رايته، فاعتبرته حماس مزايدة غير مقبولة أبدا من جانب السلفية الجهاديةعلى مواقفها وتاريخها العريق في المقاومة والكفاح ضد الصهاينة .
أيام من الشك والفتور المتبادل بدأت وتيرتها في التصاعد بعد قيام مجموعات من هؤلاء الشباب بعمليات خطف للأجانب، ومن أشهرها خطف مراسل البي بي سي " آلان جونسون " سنة 2007، وتفجيرات صغيرة لبعض أماكن اللهو والحفلات الموسيقية، وظل الاحتقان مكبوتا حتى انفجر في أغسطس 2009 بالعملية الدموية والمأساوية التي نفذتها الأجهزة الأمنية لحركة حماس ضد الدكتور أبي النور المقدسي زعيم السلفية الجهادية في رفح وأتباعه المتحصنين في مسجد ابن تيمية، بعد أن أعلن الدكتور أبو النور عن قيام إمارة رفح الإسلامية في جنوب القطاع، وهي العملية التي انتهت بمقتل أبي النور وكثير من أتباعه، وهو ما جر على حماس حملات نقد عنيفة من كل جانب، بعد الاستعمال المفرط في القوة ضد السلفية الجهادية، بعدها حدثت القطيعة التامة بين الجانبين، وفشلت كل محاولات الصلح والتهدئة، خاصة في ظل غياب قيادة موحدة للسلفية الجهادية تجلس مع حماس على طاولة السلم والتهدئة .
أمثال هذه التوترات لم تكن تخفى بالقطع على الموساد الإسرائيلي الذي وجدها فرصة لا تعوض لإيقاع المزيد من الفتن والانشقاقات في الصف الفلسطيني المهترئ أصلا بين حماس وفتح العميلة، ومن ثم شهد قطاع غزة في سنة 2010 العديد من التفجيرات والتوترات التي ألقي فيها باللائمة على السلفية الجهادية، منها ما وقع في فبراير سنة 2010 من محاولة للإغتيال رئيس وزراء حماس إسماعيل هنية، وقد أعلنت جماعة مجهولة مسئوليتها عن الحادثة، وقد سارع وزير الداخلية " فتحي حماد " بنفي التهمة عن السلفية الجهادية، كما أعلنت العديد من التنظيمات السلفية رفضها للعملية وعدم مسئوليتها عنها، وتكررت أمثال هذه العمليات في العديد من أحياء القطاع، كان الفاعل فيها مجهولا، واختلطت هذه العمليات المجهولة مع العمليات التي تقوم بها التنظيمات السلفية ضد الصهاينة، فكان رد فعل حماس على ذلك التصعيد القتالي يفتقر إلي الكياسة والحصافة السياسية والميدانية أيضا، حيث جعلت حماس جل همها تتبع كوادر السلفية الجهادية والقبض عليهم واستجوابهم، والزج بهم في السجون التي طالما قبع فيه رجال حماس أنفسهم أيام حكم فتح للقطاع، وأصبحت الأجهزة الأمنية التابعة لحماس تسوق نفس المبررات السياسية والإعلامية التي كانت تسوقها فتح أيام اضطهداها لحماس من قبل،ووصل الصراع بين حماس والسلفية الجهادية للأصول الفكرية للطرفين الإخوان والسلفية العلمية وهو الخلاف الذي سيخرج بالأزمة إلي خارج حدود القطاع، وسيدخل العديد من الأطراف التي لا ناقة لها في القضية ولا جمل .
إسرائيل تلعب الآن على وتر النزاع المحتدم بين حماس والسلفية الجهادية، وتستغل حالة فقدان الثقة المتبادل بين الطرفين، في تحقيق المزيد من المكاسب الدعائية إقليميا ودوليا،وذلك بتحريك عملائها والجواسيس والخونة داخل القطاع وخاصة وأن بالقطاع كبير العملاء والخونة دحلان وهو لا يختلف كثيرا عن العادلي في مصر، وله الكثير من المواقف والجرائم المشابهة، والحادثة الأخيرة التي قتل فيها الناشط الإيطالي خير دليل على صدق مخاوفنا من عبث الأصابع الصهيونية في المسألة، فعند النظر في الحادثة لا تجد أدنى دليل شرعي أو عقلي أو سياسي أو حتى جهادي بالمفهوم الفكري لتنظيم القاعدة على مثل هذه الحوادث الغريبة، فالمستفيد منها أولا وأخيرا وعلى كل حال هو العدو الصهيوني، لذلك من الخطأ البين التركيز على أن الفاعل لهذه الحادثة الغريبة هم من منتسبي السلفية الجهادية، وبناء التحركات والخطط الأمنية على هذه الفرضية المنقوصة، وإن كان هذا لا يعفي المسئولية المتبادلة بين حماس والسلفية الجهادية عن تردي العلاقات الجانبية بينهما، والحقيقة أنا لا أدري ما الداعي لحدوث أمثال هذه الاختلافات الأليمة بينهما، فوحدة المصير والطريق والهدف وإخوة الدين والوطن، ورفقة السلاح والجهاد، تجمع الجانبين، وما يجمع بينهما أكثر بكثير جدا مما يفرقهما، وأمثال هذه الاختلافات من جنس نزغ الشيطان الذي ينزغ بين الإخوة والأحبة والأصفياء، والتداعي لكلمة سواء تجمع الفريقين لحوار صريح، بقلوب مفتوحة ونيات خالصة، وتجرد وإخلاص، هو المخرج الوحيد من هذه الأزمة المفتعلة التي تذكيها الأصابع الصهيونية وعملائها في القطاع، والمسئولية الأساسية في نجاح مثل هذا الحوار تقع على حركة حماس، فهي الجماعة الأم، وهؤلاء هم في الأصل أبنائها وخرجوا من عباءتها، ولابد أن تستمع منهم، وتتعرف على أسباب خلافهم واعتراضهم على أسلوب إدارة حماس للقطاع، فلربما أن تكون طلباتهم مشروعة ومقبولة، خاصة وأنهم يسوقون الأدلة الشرعية على صحة ما يقومن به من وجهة نظرهم،ولا يعقل أن تعجز جماعة تقدر بعشرات الألاف عن استيعاب مجموعات تقدر بالمئات، واقصد بالاستيعاب أو الاحتواء احتواء الطغاة بالسجن والتنكيل والتضييق، ولكن استيعاب الأخ الأكبر الذي يحمل على عاتقه احتمال واحتواء كل الأزمات التي تقع في البيت الواحد .
أخيرا أنا أعلم علم اليقين أن أمثال هذه الكلمات ستجلب على كاتبها هجوما مثل اللكمات، ونقدا مثل الطلقات ولكن الحق أحق أن يتبع في كل حال، وما كنت لأحابي طرفا على الآخر، وأخطأ طرفا وأبرئ الآخر، فبأيدينا نحن قد أعطينا ألد أعدائنا الفرصة لئن يعبث بساحتها، ويشق وحدتنا، ويفسد إخوتنا التي لا ملجأ لنا بعد الله عز وجل إلا إياها من أجل تحرير المقدسات والانتصار على الأعداء .
المصدر: مفكرة الإسلام