بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين
الربا في الإقتصاد
رغداء زيدان
أهميّة الإقتصاد في حياة الأمم :
الإقتصاد في العلم الحديث هو: " تدبير شؤون المال بإيجاده وتكثير موارده" [1]. أو هو الدّراسة العلميّة للظواهر المتعلّقة بالنشاط الإقتصادي [2].
ولا يخفى علينا أنّ تقدّم الأمم ورقيّها يتعلّق بشكل كبير بالنّاحية الإقتصاديّة, فتلبية حاجات النّاس, وتمويل المشاريع الإختراعات, والأبحاث الّتي تساهم في بناء الحضارة, كلّها تحتاج إلى موارد مالية لتغطية نفقات هذه الأمور.
واليوم تكون الدّولة قويّة بمقدار ما تملك من موارد وقوى اقتصاديّة كبيرة, لذلك أصبح الإهتمام بالمال كبيراً, وأصبحت المعادلة اليوم: قوّة اقتصاديّة = سيطرة تامّة + حضارة قائمة.
واهتمّ الإسلام بهذه النّاحية كاهتمامه بكلّ نواحي الحياة, " فاهتمّ بالمال ايجاداً وتنمية واستثماراً وبقاء, من النّاحيتين الإيجابيّة والسّلبيّة, فاعتبر المال أمانة ثقيلة بيد صاحبه, وألزمه بحفظه وتثميره, وألزمه السّعي من أجل تحصيله" [3] وما هذا إلّا اعترافاً من الإسلام بأهميّة الإقتصاد, ودفعاً للمسلمين ليهتمّوا ذلك الإهتمام الّذي يضع المسلمين في مكانهم المناسب على السّاحة الدّوليّة, فتكون لهم قوّتهم, واستقلالهم, فلا يخضعون لقوانين الغرب الّذي أدخل إليهم كثيراً من المعاملات الّتي حرّمها الإسلام وقبلها المسلمون في هذا العصر ـ للأسف ـ بسبب ضعفهم وتخلّفهم.
2 ـ الإقتصاد العالمي الجديد وقيامه على الرّبا, كيف ؟ ولماذا؟ :
إنّ سعي البشر لتحصيل المال جعل الإنسان يحاول بكلّ السّبل ـ المشروعة وغير المشروعة ـ تكثير ماله وتجميعه, فالقوّة بيد الغني, والسّيطرة بيد صاحب المال, وحبّ المال غريزة في نفس الإنسان, لذلك فقد صار هذا الإنسان يتحايل حيناً, ويبرر أحياناً أخرى لإزالة أيّ عائق يقف في طريق جمعه الثّروة.
وكان الرّبا من أيسر السّبل وأضمنها لجمع المال وتكثيره, ولكنّ تحريم الرّبا في كلّ الشّرائع السّماوية وقف عائقاً أمام اعتماد الرّبا كوسيلة من وسائل جمع المال.
فقد " ظلّت البلاد الّتي تدين بالمسيحيّة تذعن لأحكامها في تحريم الفائدة حتّى نهاية القرن الثّالث عشر تقريباً, ثمّ أخذت تحت ضغط الحياة الإقتصاديّة, بسبب ظهور طبقة التّجار من جهة, وتقليص نفوذ الكنسية من جهة أخرى تفسح المجال لزحف الفائدة على ميادين المعاملات الماليّة شيئاً فشيئاً" [4].
فالمصلحة ـ ومصلحة التّجار خاصّة ـ كانت السّبب الرئيس في تحليل الرّبا. يقول جو آلنر : " لقد أصبح رجال الأعمال عندنا تائهين في مطاردة المال, الّذي يجب أن يكون وسيلة إلى الحياة الطّيبة, لا غاية في ذاتها, حتّى نسوا الغاية, وأمعنوا في التّعلّق بالوسيلة" [5].
والنّهضة الصّناعيّة الّتي قامت في أوروبّا, وحاجة المشاريع إلى المال اللازم للتّمويل, وغياب التّعاون والتّراحم في المجتمع الغربيّ, وتقديم مصلحة الفرد وتقديسها, كلّ ذلك أدّى إلى أن يصبح التّعامل بالرّبا ضرورة في تلك المجتمعات, حتّى صار النّظام " الفرديّ في العالم الغربيّ, يئنّ اليوم أمام مطامع الأفراد المتمثّلة في الإحتكارات العالميّة, والتّكتلات الماليّة الّتي تقوم على حساب الفرد المستهلك, بالإضافة إلى أنّ البيوت الماليّة تتحكّم في سياسة العالم الغربيّ, فتسخّرها لخدمة مصالح الرأسماليّة في تلك البلاد" [6].
وهكذا, شيئاً فشيئاً, أخذت الأصوات تعلو لتحليل الرّبا, حتّى أصبح التّعامل بها أمراً شائعاً وعامّاً, فظهرت المصارف لأوّل مرّة, وكان ذلك على يد اليهود المشهورين بحبّهم للمال, فأُنشئ مصرف البندقيّة عام 1157م, ثمّ أنشئ بنك الودائع في برشلونة عام 1401م [7].
ومع التّقدّم الصّناعيّ والثّورة العلميّة الّتي عمّت أوروبّا في القرن التّاسع عشر, اتّسع نظام المشاريع الصّناعيّة, ونشطت حركة التّبادل الماليّ, فتطوّرت المصارف, وظهرت تلك القوى الماليّة الكبرى, وتمركز المال في أيدي المصرفيين, وكان جلّهم من اليهود الّذين تحكّموا بالعالم عن طريق نفوذهم الماليّ والمصرفي.
وانتقلت عدوى المصارف إلى البلاد الإسلاميّة والعربيّة على يد المستعمر الّذي تعامل مع بلادنا كتعامله في العلم الغربيّ, وصدّر إلينا أنانيته وفرديّته, ـ وللأسف ـ تلقّفناها تلقّف الضعيف لفتات القوي, فأنشئ أوّل مصرف في مصر عام 1898م, وهو البنك الأهلي المصري [8].
إنّ نشاط الصّناعة, وحاجة المشاريع إلى المال, والنّظرة الغربيّة الماديّة الّتي تبيح للإنسان القيام بأي نشاط حتّى ولو كان خاليّاً من الخلق والدّين يمكّنه من الحصول على المال, وزوال روح التّعاون والتّراحم بين أفراد هذا المجتمع الغربيّ, كلّ هذا شكّل ضغطاً على الكنيسة, فظهرت القوانين الوضعيّة الّتي تبيح الرّبا, وظهرت التّفسيرات والتّبريرات لهذه الفائدة, وأصبح العالم يتغنّى بأنّ التّقدّم الإقتصاديّ لا يقوم إلّا بإباحة الرّبا. وبما أنّ الضّعيف يتبع دائماً القوي, أخذت الأصوات ترتفع في بلادنا الإسلاميّة الضعيفة, تنادي بإباحة الرّبا, حتّى نلحق ـ بزعمهم ـ بركب الحضارة, وحتّى لا نتخلّف عن النّشاط الإقتصاديّ العالميّ.
تعريف الرّبا في الإقتصاد, وكيف برّر الإقتصاديون الفائدة:
بالنسبة للرّبا في الإقتصاد الرّأسمالي, فكلمة فائدة هي المستخدمة, وتعني: ما يحصل عليه المقرض من المقترض مقابل استخدام المال. أو هي ما يحصل عليه المقرض من المقترض مقابل المخاطرة في إقراض ماله. أو مقابل الجهد المبذول في الإقراض.
وهناك نظريات كثيرة فسّرت كيف يتحدد سعر الفائدة, منها ما يقول إنّه يتحدد نتيجة قوى الطّلب والعرض في السّوق على الأموال [9], أي سعر إنّ الفائدة هو السّعر الّذي يوازن بين التّفضيل الزّمني للمدّخرين, والتّفضيل الزّمني للمستثمرين.
وقد برّر الإقتصاديون الفائدة بأنّها نتيجة عنصر المخاطرة في إقراض المال, فالمرابي يقرض نقوده لشخص, ربّما لا يعيد له هذه النقود. فهو يخاطر بهذه النقود, لذلك يجب أن يأخذ الفائدة نتيجة هذه المخاطرة.
وبرّروا الفائدة بأنّها تعويض عن حرمان المرابي من الإنتفاع بالمال المقرَض, ومكافأة له على انتظاره طيلة مدّة الإقراض.
وقالوا أيضاً إنّ الرّبا حقّ للمقرض من الأرباح الّتي جناها المقترض جرّاء استخدامه للمال المقرَض.
وهناك تبرير آخر , وهو أنّ الفائدة هي تعبير عن الفارق بين قيمة السّلعة في الوقت الحاضر, وقيمتها في المستقبل. ومنهم من اعتبر الفائدة أجرة استخدام النّقود. وهي تماثل الأجرة الّتي يحصل عليها صاحب العقار أوصاحب أدوات الإنتاج نتيجة استفادة المستأجر من هذا العقار أو هذه الأدوات [10].
نظرة علماء الإقتصاد إلى الرّبا:
إنّ الرّبا كان في نظر الإقتصاديين منذ القديم خطأ, وسبب في ركود الإقتصاد. فنجد أرسطو يعتبر الفائدة ضدّ الطّبيعة: " فأن تحصل من النّقود على نقود جديدة يكون هذا مخالف للطّبيعة, لأنّ النّقود قد جُعلت بطبيعتها لكي تتمّ مبادلة السّلع عن طريقها, وكلّ استخدام للنّقود ـ لكي يحصل أصحابها من ورائها على ثروة نظير إقراضها بفائدة خروج بالنّقود عن طبيعتها, لأنّه لا يكون قد تمّ استخدام النّقود لمبادلة السّلع, وإنّما للحصول منها مباشرة على سلعة"[11].
وكذلك فقد حرّم سان توماس الإكويني[12] الفائدة, بحجّة أنّ النّقود لا تلد, مستنداً في ذلك إلى أقوال أرسطو, وتعاليم الكنيسة[13] .
أمّا التّجاريون[14] فقد هاجموا الفائدة واطلاق أرباح المرابين, واستندوا في ذلك حتّى إلى النّظريّات الدّينيّة الّتي حرّمت الرّبا, مع أنّ مهاجمة التّجاريين للرّبا كان مبعثه مصلحة رأس المال التّجاري[15].
وكان آدم سميث[16] من أبلغ من دعا إلى الحريّة الإقتصاديّة, ولكنّه بالرّغم من ذلك طالب بوضع حدّ أعلى لسعر الفائدة على القروض[17] .فكلّ المذاهب الإقتصاديّة ـ قديمها وحديثها ـ تنظر إلى الرّبا على أنّه خطأ, وإذا قبلوا به فقد طالبوا بتدخّل الدّولة في هذا المجال, وعدم تركه لتحكّم المرابين وأصحاب الأموال.
رد على تبرير الإقتصاديين للتّعامل بالرّبا:
رأينا سابقاً أنّ الّذين تعاملوا بالرّبا قد برّروا الرّبا بتبريرات مختلفة, فبعضهم برّرها بالمخاطرة, أو التّعويض, أو الفارق بين القيمة الحاضرة والمستقبليّة, وغير ذلك من التبريرات المختلفة. وقد أجاب توماس الأكويني على تبرير الرّبا, وقدّم كثيراً من الحجج لتحريم الفائدة, يقول:
1 ـ النّقود عقيمة, وثمارها بفضل العمل الّذي استثمرها لا بفضلها.
2 ـ النّقود تهلك عند استعمالها مرة واحدة, فتخرج من ملكيّة مستعملها, فلا يجوز المطالبة بثمن هذا الإستعمال.
3 ـ المطالبة بالفائدة يعتمد المطالبة بثمن الزّمان, والزّمان ملك لله, وليس ملكاً للمرابي[18]
وقد قدّم السّيّد محمّد باقر الصّدر إجابة وردّاً على هذه التبريرات في كتابه "اقتصادنا", فقال:
1 ـ إنّ عنصر المخاطرة خطأ من الأساس في نظر الإسلام, لأنّه لا يعتبر المخاطرة أساساً مشروعاً للكسب, إنّما يربط الكسب بالعمل المباشر أو المختزن.
2 ـ أمّا أنّ الفائدة تعويض عن حرمان المرابي من الإنتفاع بماله, فالإسلام لا يعترف بالكسب تحت اسم الأجر أو المكافأة, ولكن على أساس العمل المباشر أو المختزن.
3 ـ الإسلام قد أقرّ بحقّ الرّأسمالي في شيء من الأرباح الّتي جناها المقترض نتيجة استخدامه لمال المقرض, ولكن على أساس اشتراك صاحب المال والعامل في الأرباح, وربط حقّ الرّأسمالي بنتائج العمليّة الإقتصاديّة.
4 ـ وبشأن قولهم أنّ الفائدة هي فرق السّعر بين الماضي والحاضر, فالإسلام لا يقرّ كسباً لا يبرره إنفاق عمل مباشر أو مختزن. والفائدة هنا هي نتيجة عامل الزّمن وحده دون عمل, لذلك منع الإسلام الرّأسمالي من استغلال الزّمن في الحصول على كسب ربوي[19].
5 ـ لماذا أجاز الإسلام لمالك العقار أو الأداة أن يأخذ كسباً أو أجراً مضموناً دون عناء, ولم يجز للرّأسمالي أن يأخذ أجر إقراضه للمال؟, الجواب: العقار أو أداة الإنتاج هي عبارة عن مختزن لعمل سابق, وللمالك الحقّ في استهلاك قسط منه خلال استخدامه للأداة أو في عمليّة الإنتاج الّتي يباشرها. فالأجرة هي عبارة عن أجرة لعمل سابق, وبالتّالي هي كسب مضمون, يقوم على أساس عمل منفق, أمّا الفائدة فهي كسب غير مشروع, لأنّ من يقترض كميّة من المال, سوف يعيد هذه الكميّة كما هي لا تنقص شيئاً ـ بل العكس ـ تزيد بمقدار الرّبا, وبالتّالي تكون هذه الزّيادة غير مشروعة, لأنّها لم تكن عن عمل مباشر أو مختزن[20]
وهكذا وجدنا أنّ كلّ التّبريرات الّتي قدّمها المرابون, أو الّذين أحلّو التّعامل بالرّبا كانت تبريرات مرفوضة في دين الإسلام. أمّا ما هو البديل الّذي يقدّمه الإسلام عوضاً عن التّعامل بالرّبا, فهذا ما سنجده في القواعد الّتي قدّمها الإسلام من أجل نظام إقتصاديّ متين, فيه الخير والصّلاح لكلّ النّاس, بعيداً عن الإستغلال, وأكل أموال النّاس بالباطل, يقول تعالى: "الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ"[21]
المصادر:
[1] ـ أحمد محمّد جمال, محاضرات في الثّقافة الإسلاميّة, دار الكتاب العربي, بيروت, ط6, 1983م, 301 .
[2] ـ عبد الرّحيم بوادقجي, مبادئ في علم الإقتصاد والمذاهب الإقتصاديّة, مطبعة الدّاودي, دمشق, 1408/1988, المقدّمة.
[3] ـ وهبة الزّحيلي, مفهوم المال والإقتصاد في الإسلام, مجلة نهج الإسلام, العدد 49 ( السّنة 13, 1413/ 1992), 24 .
[4] ـ د. محمّد عبد المنعم الجمّال, موسوعة الإقتصاد الإسلامي, دار الكتب الإسلاميّة ودار الكتاب المصري, القاهرة, دار الكتاب اللبناني, بيروت, ط2, 1406/1986, 389.
[5] ـ أحمد محمّد جمال, محاضرات في الثّقافة الإسلاميّة, 310.
[6] ـ المصدر نفسه, نفس الصّفحة.
[7] ـ عبد الله عبد الرّحيم العبّادي, موقف الشّريعة من المصارف الإسلاميّة المعاصرة, منشورات المكتبة العصريّة, صيدا بيروت, 1401/1981, 23.
[8] ـ المصدر نفسه, 24.
[9] ـ عبد الرّحيم بوادقجي, مبادئ في علم الإقتصاد والمذاهب الإقتصاديّة, 162.
[10] ـ محمّد باقر الصّدر, اقتصادنا, دار التّعارف للمطبوعات, بيروت, ط14, 637 .
[11] ـ عبد الرّحيم بوادقجي, مبادئ في علم الإقتصاد والمذاهب الإقتصاديّة, 186.
[12] ـ توماس الإكويني ينبع المدرسيين, وهم رجال الدّين الّذين كانوا يعلمون الفلسفة والقانون واللاهوت في أوروبا منذ القرن العاشر الميلادي. انظر, المصدر نفسه, 192.
[13] ـ المصدر نفسه, 193.
[14] ـ التّجاريون أو المذاهب التّجاريّة هي الأفكار الإقتصاديّة الّتي ظهرت في أوروبّا منذ القرن الخامس عشر, واستمرّت إلى القرن الثّامن عشر. انظر, عبد الرّحيم بوادقجي, مبادئ في علم الإقتصاد والمذاهب الإقتصاديّة, 213.
[15] ـ المصدر نفسه, 213 ـ 217.
[16] ـ آدم سميث: أستاذ الإقتصاد السّياسي ومؤسّسه, أصدر كتاب " بحث في طبيعة وأسباب ثروة الأمم " وبظهوره بدأت المدرسة الكلاسيكيّة, وبدأ علم الإقتصاد, وبقيت أفكار هذه المدرسة سائدة في أوروبّا وأمريكا حتّى الرّبع الأخير من القرن التّاسع عشر. انظر, المصدر نفسه, 231.
[17] ـ المصدر نفسه, 243.
[18] ـ عبد الرّحيم بوادقجي, مبادئ في علم الإقتصاد والمذاهب الإقتصاديّة, 193.
[19] ـ محمّد باقر الصّدر, اقتصادنا, 637 ـ 638.
[20] ـ المصدر نفسه, 626.
[21] ـ البقرة, 268.
|