بسم الله الرحمن الرحيم
أذكر الله
اليمن قطر عظيم من الأقطار التي كوَّنت الدعامة الأساسية للأمة الإسلامية منذ الأيام الأولى لهذا الدين، فقد دخل أهل اليمن في دين الله أفواجًا منذ عهد رسول الله r، وكانت لهم مشاركة فاعلة في مسيرة الأمة الإسلامية، حتى إن مجاهديهم وأبطالهم كانت لهم علامات بارزة في الفتوح الإسلامية، ولعل من أبرز المشاركات اليمنية في حركة الفتوح، هو جهدهم الوافر في فتح الشام ومصر وشمال إفريقيا والأندلس وغير ذلك من مناطق في العالم.
اليمن أرض العلم والعلماء ولم تتوقف المشاركة اليمنية المؤثرة في ميدان الجهاد والفتوح فقط، إنما كانت لهم مشاركات مؤثرة جدًّا في مسيرة العلم والعلماء، وما أكثر العلماء الذين رغبوا في السفر إلى اليمن لتلقي العلم على أيدي جهابذتها ومفكريها! وليس أدل على ذلك من حرص الإمام الجليل أحمد بن حنبل على السفر إلى اليمن لاستكمال دراسته العلمية هناك، مع حالة الفقر الشديدة التي كان عليها الإمام الجليل؛ مما اضطره الأمر أن يسافر من بغداد إلى اليمن ماشيًا على قدميه، ومع هذه المشقة إلا أنه وجد الأمر ضروريًّا جدًّا؛ لكي يكمل بعض الجوانب العلمية عنده.
أرق أفئدة وألين قلوبًا وعندما نتحدث عن اليمن فإننا لا نقصد العلماء والمجاهدين والقادة والمفكرين فقط، بل نتحدث عن الشعب بكامله، فهم في عمومهم من أرق شعوب العالم وأطيبهم، ولقد شهد لهم رسول الله r شهادة عظيمة هي خير لهم من الدنيا وما فيها، وذلك عندما جاء وفد اليمن إلى المدينة المنورة، فقال رسول الله r: "أَتَاكُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ، هُمْ أَرَقُّ أَفْئِدَةً وَأَلْيَنُ قُلُوبًا، الإِيمَانُ يَمَانٍ وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ"[1]. وأرى أن هذا من معجزات الرسول r التي رأيتها وخبرتها بنفسي، فقد تعاملت مع كثير من اليمنيين، وزرت اليمن مرات عديدة، وفي كل هذه التعاملات أجدهم -كما وصف حبيبي r- ألين قلوبًا وأرق أفئدة، وكم دعوتُ لهم بدعاء الرسول r عندما قال: "اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي شَامِنَا، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي يَمَنِنَا"[2].
إنه قُطْر جليل بمعنى الكلمة..
دخول الإسلام اليمن وقصة الزيديين وكما ذكرنا فإن قصة الإسلام فيه قديمة، فقد دخله الإسلام في عهد الرسول r، ومن ثَمَّ صار اليمن إقليمًا إسلاميًّا مهمًّا في الدولة الإسلامية، وظل كذلك في عهد الخلفاء الراشدين، وكذلك في عهد الخلافة الأموية، وصدر الخلافة العباسية.
وفي زمن الخليفة العباسي المأمون، وتحديدًا في سنة 199هـ خرج عليه في الكوفة أحد الزيديين، وهو محمد بن إبراهيم طباطبا، وأرسل ابن عمه إبراهيم بن محمد إلى اليمن لكي يستكثر من الأنصار. والزيديون هم أتباع المنهج الذي وضع أصوله زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وهو منهج محسوب على الشيعة وإن كان فيه تقارب كبير مع أهل السُّنَّة، وهم لا يقولون بمعظم البدع والخرافات التي يتكلم بها الشيعة الاثنا عشرية (شيعة إيران والعراق ولبنان والخليج)، وإنما يتعاملون بالقرآن والسُّنَّة كبقية المسلمين، غير أن لهم بعض الآراء الخاصة في قضية الإمامة؛ فهم يحصرون الإمامة في نسل علي بن أبي طالب t من فاطمة -رضي الله عنها- بنت رسول الله r، ولا يحدِّدون شخصًا معينًا في هذا النسل، بل يقولون: إن الشخص الذي تنطبق عليه شروط الإمامة كالنسب من فاطمة رضي الله عنها، وكالعلم والتقوى وحسن الرأي لا بُدَّ أن يخرج داعيًا لنفسه، فإذا بايعه الناس صحت إمامته. وهم يجوِّزون أن يخرج إمامان في قُطْرين مختلفين، ومن ثَمَّ خرج منهم الكثير عبر مراحل التاريخ المختلفة.
وبالمناسبة فإن الكثير من علماء السنة يعتبرون "زيد بن علي" من علماء السنة الأفاضل، وهو كذلك، فهو من الأئمة الأعلام، وكان ينادي بالخروج على أئمة الجور، وكان يُعظِّم من شأن الصحابة، وكان يُقدِّر أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، غير أنه كان يرى أن علي بن أبي طالب t أفضل منهما. وهذا غير صحيح، مع جلالة قدر علي بن أبي طالب t، ومع ذلك فزيد بن علي كان يرى صحة خلافة أبي بكر وعمر؛ لأنه يجوز عنده ولاية المفضول في وجود الفاضل. وهو بذلك يختلف اختلافًا جذريًّا عن الشيعة الاثني عشرية الذين يرفضون إمامة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، بل يتقربون إلى الله بلعنهم كما يقولون.
الزيدية أقرب إلى السنة ومن هنا فإن الزيدية وإن كانت معدودة من مذاهب الشيعة إلا أن نقاط التَّماسّ مع السُّنَّة أكثر بكثير من نقاط تماسِّهم مع الشيعة، وقد لا تستطيع أن تفرِّق أحدهم عن السنة، وقد التقيت مع الكثير منهم في اليمن، وهم يترضُّون على الصحابة ويقدِّرونهم، ويصلون مع السُّنَّة في نفس المساجد، وليس لهم بدع الاثني عشرية المعروفة، والتي فصلناها قبل ذلك في مقالي:
"أصول الشيعة" و
"سيطرة الشيعة". بل إن منهم العلماء الأجلاء الذين أخذ عنهم الكثير من طلاب العلم السُّنَّة، وليس أفضل كمثالٍ من العالم الفذّ الشوكاني صاحب كتاب نيل الأوطار، فقد كان زيديًّا يمنيًّا رحمه الله.
ونعود إلى عهد المأمون حيث خرجت ثورة محمد بن إبراهيم طباطبا في الكوفة، ولكن المأمون استطاع أن يقمعها بالقوة، غير أنه لم يستطع ذلك بالنسبة لثورة إبراهيم بن محمد في اليمن، ولعل ذلك يرجع إلى بُعد اليمن عن بغداد، وكذلك إلى طبيعة اليمن الجغرافية الجبلية الوعرة، إضافةً إلى الطبيعة العشائرية التي تجعل من السيطرة المركزية أمرًا صعبًا.. لذلك كله عمد المأمون إلى الأسلوب الدبلوماسي فأعطى إبراهيم بن محمد الزيدي ولاية اليمن على أن يكون تابعًا له، وتم ذلك بالفعل، وأطال ذلك في عمر تبعية اليمن للخلافة العباسية قُرابة المائة عام، ولكن كان هذا على حساب انتشار وترسُّخ المذهب الزيدي في اليمن.
بعد هذه الأحداث بعِدَّة عشرات من السنين، وتحديدًا في 284هـ، وفي زمن ضعف الخلافة العباسية، استطاع يحيى بن الحسين الرسيُّ أن يؤسِّس دولة زيدية في اليمن عُرفت بدولة بني الرسي أو دولة الأئمة، وانفصل بهذه الدولة عن الخلافة العباسية، وكان مقرها في صعدة في شمال اليمن، ولم تكن هذه هي أول دولة تنفصل بجزءٍ من اليمن عن الخلافة العباسية، فقد حدث قبل ذلك أن انفصل اليعفريون بدولة خاصة بهم مركزها صنعاء، وذلك في سنة 230هـ، غير أن اليعفريين كانوا سُنَّة ولم يكونوا زيديين