بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين
الداعية وإدارة الذات ... نفس لهوها التعب ( 1 )
مصطفى كريم
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]يقول أحد الدعاة إلى الله: اتصلت بي إحدى الأخوات تطلب عناوين للمراسلة الدعوية، وكانت باستمرار تطلب مني كميات كثيرة من الكتب والمطويات وبعدد من اللغات، كان يَصلُني منها كل أسبوع عشرات الرسائل مجهزة للإرسال، يقول: تعجبت من همَّتها، واستمرارها وعدم انقطاعها من هذا العمل لسنوات.
يقول: ومع الأيام اكتشفتُ أمرًا عجيبًا، اكتشفتُ أن هذه المرأة صاحبة الهمَّة والنشاط امرأة بدون أطراف، ولا تستطيع أن تتحرك، فهي تُحْمل وتُنزَّل من على سريرها، وذلك من آثار حادث حريق تعرضت له، وإذا بها قد استقدمت خادمتين، فأحسنت تعليمهما على هذا المشروع، وبتوجيهاتها من على فراشها وسريرها، تنطلق مئات الرسائل لكل مكان في العالم في الشهر.
كانت تشعر بالسـرور وهي تقرأ الردود بالتأثر والهداية بعد الضلال، فماذا لو علم أصحاب الردود أن سبب إنقاذهم ودلالتهم على الخير وهدايتهم؛ هي امرأة مُقعدة لا تستطيع نفعًا حتى لنفسها؟!
فانظر إلى تلك المرأة الصالحة، التي لا تعرف معنى المستحيل في طريقها إلى النفس الأبية، تلك النفس التي تلهو بالتعب والكد في سبيل الله، فلم تخضع للعقبات، ولم تستجب للمعوقات.
حتميات خادعة:
وما أن تخطو خطوتك الأولى نحو "نفس لهوها التعب"، حتى تعترض طريقك حتميات ما أنزل الله بها من سلطان، تحاول أن تطفئ جذوة الحماسة، وتثبط من روح التحدي لديك.
ولكنك من أصحاب النفس الأبية ـ وهذا عهدي بك ـ، ولذا فإنك ستجتاز هذه الحتميات الوهمية ولن تقع في شراكها إن شاء الله.
1. إنا وجدنا آباءنا على أمة:
وتقضي تلك الحتمية بأن أجدادنا هم المسئولون عما وصلنا إليه، فقوانين الوراثة هي السبب، فقد يكون أحدهم ذو مزاج متقلب وسريع الغضب، ويعلل ذلك بأن طبيعة عائلتي هي السبب في تلك العصبية التي تنتابني، لقد كان أجدادي من ذوي الطباع الحادة، وهو ما يظهر في تحليل سائل الـ DNA الخاص بي، وانتقل ذلك لي عبر أجدادي من جيل إلى جيل.
وكأن لسان حال هؤلاء يقول: {إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آَبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [الزخرف: 23-24].
ولا ريب في أن هذه حتمية خادعة لا أساس لها من الصحة، والدليل في قصة عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول رضي الله عنه، فقد كان صحابيًّا جليلًا دافح عن الإسلام وبذل في سبيله الغالي والنفيس، بخلاف والده عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين في المدينة، وهو الذي حكى القرآن مقالته: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [المنافقون: 8].
فلم تكن قوانين الوراثة قيدًا يُجبر الصحابي عبد الله على أن يكون مثل أبيه في النفاق، بل كان على النقيض تمامًا.
2. هكذا تربينا .. هكذا تعلمنا:
وبموجب هذه الحتمية؛ فإن التربية هي المسئولة عما نحن عليه الآن، فتجارب الصبا والطفولة تركت آثارًا في شخصيتنا وتوجهاتنا لا يمكن محوها.
ولا يمكن لعاقل أن ينكر أثر التربية، خاصة تأثير الوالدين والمعلمين، ولكن هل علمت خبر الوليد وأبي حذيفة، ابني عتبة بن ربيعة؟!
إنهما رجلان ولدا في نفس البيت، لنفس الأب، ورضعا من نفس المعين التربوي، كان أبوهما عتبة بن ربيعة كافرًا، ومات على كفره يوم بدر، وفي نفس المعركة، كان أحدهما وهو أبو حذيفة في معسكر الإيمان، بينما أخوه الآخر الوليد في معسكر الكفر.
فهل حالت التربية أن تجعل أبا حذيفة من صحابة النبي رضي الله عنه وأبوه رأس من رؤوس الكفر في قومه ومحارب شرس للإسلام والمسلمين؟! بل هل وقفت تلك التربية عائقًا أمام مفارقة أبي حذيفة الدنيا شهيدًا في سبيل الله مضحيًا بنفسه في سبيل الإسلام يوم اليمامة؟!
3. التلوث البيئي:
وهي تخبرك بأن البيئة المحيطة بك هي السبب في وضعك الحالي، وكما يقول بعض الناس اليوم: انظر إلى الواقع والمجتمع المحيط، بطالة وتدني مستوى المعيشة، وضعف الإنتاج، والتخلف العلمي والثقافي، والبيئة السلبية التي تقف أمام كل نفس أبية.
وأنا أتفق مع صاحبنا في كلامه عن الواقع المرير، ولكن هل سنقف مكتوفي الأيدي إزاء هذا الواقع؟ فلو كان الأمر كذلك، ما تمكنا من استخدام المصباح الكهربائي مثلًا، فإن مخترع المصباح الكهربي، توماس إيديسون وبعد أربعة أشهر في المدرسة، أعلن مدرسه أنه طفل غير طبيعي، متأخر ومتبلد الذهن لا يصلح للدراسة، فهل استجاب إيديسون لكلام مدرسه السلبي؟ لو فعل لما سمع العالم بتوماس إيديسون.
الإسلام يدحض تلك الحتميات:
والإسلام يدحض تلك التحتميات التي تضعف من قدرات الإنسان، وتجعله أسيرًا لا حرًا، فالله عز وجل قد جعل المسلم حرًا إلا من العبودية لله، ولم يجعل مقيدًا بقيود تضعه موضع الحيوان الذي لا يستطيع التحكم في تصرفاته وردود أفعاله، فيأتي القرآن واضحًا في دحض هذه الشبهات، ويقر مبدأ أن الإنسان له القدرة على الاختيار بين الخير والشر والصالح والفاسد، وله الإرادة في سلوك أي الطريقين طريق الخير وطريق الشر، ونتيجة لهذه الاختيارات سيكون حسابه يوم القيامة .
فقد منح الله عز وجل لكل إنسان الوعي الكامل والقدرة على الاستجابة للتذكير، فقال تعالى: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} [المزمل: 19]، ثم منح الإنسان حق الانتفاع بالذكرى فيستقيم على كل حق وعدل، فقال: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير: 28].
وكونك مسلم فأنت تعلم أنك ستقف يوم القيامة أمام الله وحدك، وستُسأل عن اختيارك أنت، ولا يُسأل أحد سواك ولن يتحمل أحد مسئولية قراراتك، بل أنت وحدك الذي تتحمله قال تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]، إنها فردية التكليف التي جاء بها الإسلام؛ ليعلن للبشرية جميعًا أنه لا سبيل للنجاة في الآخرة إلا بالإيجابية والقدرة على الاختيار الصحيح للأفعال .
جنة شيخ الإسلام:
ولنقلب صفحات تاريخ لنرى فيها أنموذجًا واقعيًّا يجسد هذه الحقيقة بصورة أعظم وأشمل، إنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، لقد سطر ذلك العملاق الفذ كلمات من نور، ترسخت في وجدانه فأضحت حريته وسعادته نابعة من داخله وصارت جنته بين ضلوعه، فبعد أن كان يلتف حول حلقته مئات الآلاف في جوامع الشام ومصر، يجد نفسه مرة واحدة في قلعة الشام سجينًا، يتعرض لصنوف الإيذاء والامتهان.
إنه موقف قد يصيب أي إنسان بإحباط ويأس وقنوط، ولكن أنى للحر أن تتسلل تلك المشاعر إلى نفسه أو أن تتمكن منه، فما كان منه إلا أن صاغ تلك الكلمات الخالدة التي خرجت من أعماق قناعاته: (ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، أين رحت فهي معي، لا تفارقني، أنا حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة).
حواجز وهمية:
وصاحب النفس الأبية يُوقن تمام اليقين أن عقبات الحياة ومعوقاتها ما هي إلا حواجز وهمية يصنعها الإنسان في مخيلته فقط، ولا وجود لها إن استجلب توفيق الله وشمَّر عن ساعد الجد، فكما يقول براين ترايسي: (لا توجد حدود لما يمكنك إنجازه بحياتك، سوى العوائق التي تفرضها على عقلك).
ولكن ما هي تلك العقبات التي تقف في طريق النفس الأبية، وكيف لهذه النفس أن تجتاز تلك العقبات؟ هذا ما سنتناوله بإذن الله في الحلقات القادمة من سلسلة "نفس لهوها التعب".
أهم المراجع:
1. العادات السبع للناس الأكثر فاعلية، ستيفن كوفي.
2. قوة المبادرة، محمد أحمد العطار.
3. الكتيب الشامل عن الإنجاز الشخصي، براين ترايسي.
4. محاضرة بعنوان الرجل الألف، إبراهيم الدويش.
5. ذيل طبقات الحنابة، ابن رجب.