يروى أن أهل بغداد اشتكوا إلى الخليفة المعتصم إساءة غلمان الأتراك وقد أكثر المعتصم من شرائهم ليقوي الجيش بهم, حتى ملئوا بغداد وكانوا عجمًا جفاة, وجاء وفد من الصالحين للخليفة المعتصم وقالوا له: 'تحول عنا بجيش الأتراك هذا وإلا قاتلناك' فقال لهم المعتصم: 'وكيف تقاتلوني وفي عسكري ثمانون ألف دارع؟' فقالوا: 'نقاتلك بسهام الليل'. فقال: 'لا طاقة لي بذلك'. وتحول بجيشه إلى مدينة جديدة اسمها 'سر من رأى' أو سامرا الآن. حقًا إن سهام الليل لا يقوى على صدها أحد ولا يعرف قيمتها الآن إلا القليل فإنها السلاح الأقوى والسيف الأمضى الذي سقط من حسابات المسلمين, إنها وصلة العبد برب الأرض والسماء, ومسامرة المظلومين في حوالك الظلامات, فكم من سهام كشفت مظلمة وقمعت ظالمًا وردت طاغيًا, نحن في أمس الحاجة لأن نبري سهامنا ونشد أوتارنا ونرفع أقواسنا ونأجر في جوف الليل الغابر لمن وسع سمعه الأصوات كلها, ولمن يشك في قوة سهام الليل ومدى فاعليتها فليسمع لتلك المواقف. لما قتل الحجاج العالم الرباني 'سعيد بن المسيب' ووصل هذا الخبر للحسن البصري رفع يديه في جوف الليل وقال: 'اللهم يا قاصم الجبابرة اقصم الحجاج' فمات الحجاج من ليلته. كانت دولة الأغالبة ولاة الأمور على 'إفريقية' أيام الخلافة العباسية, وفي سنة 196هـ كان الوالي الأمير عبد الله بن الأغلب وكان سيئ السلوك والأخلاق ظلومًا غشومًا, وأسرف في ظلم الناس, فجاءه عالم إفريقية وقتها وهو 'حفص بن حميد' فقال له: 'يا أيها الأمير اتق الله في شبابك وارحم جمالك وأشفق على بدنك من النار, وارفع هذه الضرائب الجائرة عن الرعية, وخذ بكتاب الله وسنة رسول الله'. فأعرض الأمير عبد الله عن سماعه ولم يأخذ بنصيحته بل غالى في المكوس والضرائب كرد فعل عكسي للوعظ والإرشاد, فقال حفص بن حميد: 'قد يئسنا من المخلوق فلا نيأس من الخالق فاسألوا المولى وتضرعوا إليه في زوال ظلمه عن المسلمين فإن فتح في الدعاء فقد أذن في الإجابة' فقام الناس فتوضئوا وساروا إلى المصلى ودعوا الله بعد صلاة العشاء أن يكف عن المسلمين أذى هذا الأمير الظالم وأن يريحهم من أيامه, فإذا بالأمير الظلوم تصيبه قرحة تحت أذنه لم يستطع أن يصمد أمام وجعها سوى خمسة أيام فقط وخلالها تغير لون بشرته البيضاء وكان من أجمل أهل زمانه حتى ضربوا به الأمثال في الوجاهة والوسامة إلى اللون الأسود كأنه زنجي بعد هذه الخمسة أيام مات غير مأسوف عليه ولا مبكى. عندما مات صلاح الدين الأيوبي رحمه الله سنة 589هـ تقسمت مملكته بين أبنائه وإخوته وكان حكم الديار المصرية من نصيب ولده 'العزيز عثمان' وكان هذا الولد مخالطًا لصحبة سوء من أصحاب العقائد الضالة وأتباع الفرق المنحرفة وكان معظمهم من فرقة الجهمية التي شعارها نفي الصفات والأسماء والقول بالجبر في القدر, وقد زين له هؤلاء الجهمية أن يقوم بطرد علماء الحنابلة وحتى أتباعهم من العوام من الديار المصرية بأسرها, وبالفعل عزم 'العزيز عثمان' على ذلك وشاع الأمر وانتشر الخبر فاجتمع علماء الحنابلة في أحد المساجد وأخذوا في الدعاء عليه في ليلة من شهر محرم وبالتحديد 19 محرم سنة 595هـ, فما كان من 'العزيز عثمان' إلا أن قد خرج من يومه للصيد فساق خلف ذئب بفرسه فكبا به فرسه فسقط من فوقه فمات في الحال وأهلكه الله عز وجل سريعًا وعظم قدر الحنابلة بين المسلمين بمصر والشام. كان الحافظ عبد الغني المقدسي من كبار علماء الحديث وصاحب تصانيف بارعة في علم الحديث وأحوال الرجال كما كان من كبار علماء الحنابلة ومشهورًا بين العامة والخاصة بالورع والتقى والصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهر بالحق, لا تأخذه في الله لومة لائم, هذا إضافة لكونه واعظًا شديد التأثير, رقيق القلب, سريع الدمعة, له قبول كبير عند العوام, وكل هذه الصفات جعل حساده كثير والساعين عليهم أكثر, وفي يوم 24 من ذي الحجة سنة 594هـ جلس الحافظ عبد الغني بمسجد دمشق يلقي درسًا في العقيدة على مذهب السلف فغضب منه رجلان من الأشاعرة هما القاضي ابن الزكي والخطيب ضياء الدين الدولعي, وأثاروا عليه أمير البلد وعقدوا له مجلسًا للمناظرة انتصر فيه عليهما مما زادهما حسدًا وغيظًا فسعوا به عند الأمير حتى أخرجه من دمشق, فقام الحافظ عبد الغني فدعا عليهما دعوات بالغة فما كان من الاثنين إلا أن ماتا في نفس الفترة وقد أصيب القاضي ابن الزكي بالجنون والصرع فجأة فكان يصرع ثم يفيق ثم يصرع حتى مات. وصدق الشاعر عندما قال: ولا تدري بما صنع الدعاء لهن أجل وللأجل انقضـاء